جيلاتين

يُحكى أنّ ذاكرة أسماك الزينة الذهبية ثلاثة ثوانٍ فقط، ربّما كان هذا سرّ جمالها وتألقها، للتفكّر في ذلك عبرةٌ وحكايا.
اللهم ذكرياتٍ تُلهمنا وتنفعنا وتدفعنا نحو الهمم والقمم .

مرّ على ذلك الألم المباغت عام، عامٌ لم يشبه أعوامها في شيء، صاخبٌ جداً، سمّته باسمه، عامٌ فيه استلمت رسالةً على غير ميعادٍ كُتبت بحروفٍ أعجميّةٍ متلاصقة لم تستطع فكّ رموزها وفهم معانيها حتّى الآن.
تفتقده هذه الأيّام حدّ الاختناق، تفتقد صباح الخير منه، وتفتقد شعوراً مرتبطاً به ارتباطاً شرطياً، شعورٌ دافئ يقول أنّ تلك الحكاية سرّهما الجميل إلى الأبد وما ألطف الأسرار.

لا تعرف سبباً مقنعاً لافتقاده الذي يصرّ على ملازمتها أثناء اعداد الفطور، ثمّة غصّةٌ مريرةٌ لا يفلح في انتزاعها من بين كتفي سحر كوب شاي الفواكه الزرقاء ولا حتّى قطعة الشوكولاته بنكهة النعناع.

ليلتها.. كانت سعيدة، كانت تريده، تريد أن تبشّره بجديدها، تريد أن يقول لها: أحسنتِ، أن يصفّق لها، أن يرسم لها نجمة، أن تسمع ما اعتادت بحبٍّ سماعه منه وحده دون العالمين. كانت تريد مشاعراً كثيرة، كثيرة جداً، مشاعره كلّها جميعها تريدها لها وحدها هي.. بكلّ ما تحويه كلمة “وحدها” من أنانيّة.
كان البدر يتألّم عينيها تتأمّله، وكانت النجوم تقول بأسفٍ: لا شيء ممّا تريدين بعد هذه الساعة سيحدث، لا شيء، أنتما من اللحظة صرتما في عالمين منفصلين، لن يعود إلى هنا، وأنتِ من ستذهب إليه في يومٍ لا يُعرف له بين البشر ميعاد.

الثالثة فجراً.. يتردّد صدى صوته في روحها كما كان يفعل منذ أيّام، يغنّي لها أغنيةً لا تفهمها، يقول بأنّ هذه الحياة ستمضي، وبأنّهما من بَعْدِ بُعدٍ سيلتقيان، ويقول: تذكّري إلى الأبد أنّي غنّيت لكِ في محادثتنا الأخيرة، أنّي استطعت اضحاكك من بعد عبوس، أنّي مسحت الدّمعة واطمأننت أن تلك الأنامل المجروحة ستواصل الكتابة إلى أن نلتقي وأقرأ جميع ما كتبت قراءةً واحدة، ليلتها نامت والوجعُ جنباً إلى جنب، وودّت لو أنّهما معاً، لو أنّها شاركته الفرح، لو أنّ الذراعين كانتا بانتظارها مشرعتين، لو أنّ الموت لم يغيّبه عن ناظرها، لو أنّه انتظر أن تهنأ بقربه قليلاً بعد.

التقيا بعد زمنٍ في حلمٍ غير مفهومٍ ككلمات تلك الأغنية وحروف تلك الرسالة، كانا في الجنّة.. ربّما، كانا في سيّارةٍ تقودها هي، أسند رأسه إلى كتفها، وكانت منشغلةً تماماً بما تراه، كان الجوّ هلاميّاً وكأنّه جيلاتينٌ شفّاف تسبح فيه أسماكٌ ملوّنة! وكانت تتسائل: أيّنا عليه أن يموت الآن، كيف سنموت في عالم الّلاموت، من الذي لا يتنفس: نحن أم هُم؟ أيّنا يغرق؟ هل يُعقل أن تطير سمكة! وأن تتنفّس في الهواء! أم أنّ الهواء هناك يتمتّعُ بحرّيةٍ بحريّةٍ فريدةٍ تشكّله حسب طبيعة المُريدِ ليتنفّسه كما شاء وكيفما احتاج السّابحون إلى أحلامهم أن يتوجّهوا؟ لم تفهم ولم يفهم.. ولن..

كان قريباً، قريباً جداً، كما يليق بالقرب وكما ينبغي له أن يكون.

استيقظت بعدها بذاكرةِ سمكةٍ ذهبية، جوعُ الحنين هدّأت بعضاً من روعه قطعة شوكولا مُرّة، مرّة جداً.
تبسّمت لها الشوكولا، وهمست: صباح الخير للسمكة.

قالت السمكة: أقرئي صباح النّور للهواء، قولي له: كن بخير، كلّ خير، زبرجد الروح النائم بين راحتَيْ دعائي ما حييت إلى أن نلتقي ثانيةً ذات حلمٍ لا يشبه الأحلام.. هناك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *