جداً

= صباح الخير زبرجدي..
_ صباح الخير ثانيةً؟

= وثالثةً وعاشرةً ومائةً وألف، صباح الخير دوماً حتّى وإن بدأت الكتابة بعد أن تنتصف الليالي، حين تبدأ الكتابة لك.. يتنفّسُ سعدٌ من حولي يشبه سلام الصباحات، فصباح النور دائماً وأبداً.
صباح الحب.. الحب فقط.. حبٌّ بلا حربٍ بلا هموم، حُبٌّ جسورٌ طهورٌ لا يبالي أن يقول لمن يحبّ أنا أحبّ دون أن يرتبك، دون أن يختبئ، دون أن يخاف..
صباح الحب.. لجميع الأضداد في مكانٍ من هذه الحياة، إلى أحدهم الذي لم يفقد بعد شبابه مع أنه شاب.. وإلى إحداهنّ التي تخشى صباح مساءٍ.. أن تشيب.
لا أعرف إن كان هذا النّبض الذي يخنق الأنفاس خنقاً يسمّى بالفعل حبّاً، ولا أعرف كيف يرتبط شعور الحبّ بالستر والحياء ارتباطاً وثيقاً عند بعضنا، ولا أعرف أيضاً.. لماذا أحبّ بطريقةٍ مختلفةٍ عن تلك التي اعتاد أن يحبّ بها الجميع.

= ماذا تقصدين؟
_ الذي فهمته تماماً.

= ما فهمته حمّال أوجه!
_ وما قصدته كذلك.

= من أنتِ؟
_ أنا الأنثى التي تتمنى لو أنّنا لن نكبر أكثر من ذلك بعد، أنا تلك التي تتمنّى لو أنّ أعمارنا تتوقّف عند الثلاثين، لا تظهر لنا شيبةٌ ولا تجعيدة، ولا تتغيّير ملامحنا ولا يخفّ وهج شموسنا عاماً بعد عام منذ حلولها، بل نشرق حتّى الرّمق الأخير من العمر، حتى وإن تجاوزنا الخمسين والسبعين بل والتسعين.

= تحلمين!
_ لو أنّي أعرف لما ساررتك بما أحلم به، وما أتمنّاه، وما يزعجني..
أريد ذلك.. أريده بشدّة أيضاً، أريد أن أبقى مخضرّةً مخصّرةً إلى الرمق الأخير، لا أريد أن أتأمّل ذات صباحٍ عجوزاً في المرآة وأتساءل من هذه؟! لا أريدها أن تضحك منّي.. ولا أريد أن تجيبني.. ولا أريد أن أسمعها تستفزّني: أنا الحسناء التي كبرت.. أنا الجميلة التي صارت غمّازتها تضيع بين التجاعيد.. لا أريد.

= تطلبين عظيماً! تريدين ألا نشيب، ألا نشيخ، ألا نكبر! كيف!
انظري إليّ، تأمّلي القَسَمات.. غزاني الشيب ولم ألْتقِ أميرتي بعد، لا أعرف أين تسكن وتعيش، ولا كيف ومتى وأين سنلتقي، لا أجد سكناً لي في الحياة مهما بحثتُ وتنقّلتُ لأنّي أدرك أنّ السكن الأخير لن يكون إلا إليها يوماً ما.. ولست أدري متى يحين ميعاد ذلك اليوم اللامستحيل..
أمّا حلمك.. مضحك.. لا يصدّق.. لم يجرؤ أحدنا على حلمٍ مستحيلٍ مثل ذلك.. أيّ حلمٍ لا منطقيٍّ ذاك الذي أرّق لياليك!شبابٌ دائم! أضحكتني..
_ …

***

أفكّر في ذلك منذ عامٍ وأكثر، كيف نحيا حياةً طيبةً بلا موت، كيف نعيش شباباً بلا هرم، كيف يبقى الحبّ متألّقاً متأنّقاً متعطّراً بالشغف؟
كلّما رأيت صوراً لأصدقاء يحتفلون بالأربعين وبالخمسين والسبعين شعرت بقلقٍ ما، كيف يحتفل أحدهم بتغيّر شكله؟ أيّ سحرٍ يتعاطونه كي يحفظوا نضارة قلوبهم؟ كيف لنا أن نحيا مثلهم، ربيعٌ لا خريف له، غيثٌ لا يرعبه جفاف.

نعم.. أنا مستاءة، مستاءة كثيراً من عمرنا الذي اختلست منه سنينٌ طوالٌ بسبب الحرب ولعناتها، مستاءة لأنّنا صرنا نشكّ بكلّ شيء، وزهدنا في كلّ شيء، ولم يعد للتفاصيل الصغيرة والصغيرة جداً في حياتنا قيمةٌ تُذكر.

لستُ وحدي، أدرك ذلك تماماً، نحن شعبٌ كاملٌ مستاء، نحن الفردوس الحزين الذي تحوّل إلى جحيمٍ لا يطاق.. أريد أن أبكي.. أن أنوح.. أن أكتب ألف عامٍ حتى تنام الكلمات نومتها الأخيرة، أن أقول أنّي كنت أريد أن نحيا حياة بسيطة جداً عاديّة، ويبدو أنّ العاديّ غدا باهظ الثمن في هذا الزمن.

نعم، لا أريد أن أكبر، مثلك تماماً أنا، لا أريد، ومثلي تماما أنت.. تدرك أنّ عدم الإرادة إرادةٌ قهّارةٌ أيضاً.

كيف سنفعل ذلك؟
سنفعله بالكتابة! بكتابة الرسائل، سنفعل كما يفعل عقلاء الأدباء المجانين، أنت لن تكبر ما دمت أديباً، لن تشيخ وتهرم ما دمت شاعراً أريباً، صورة شبابك ستسيطر على عقول القرّاء، سيرون بين كلماتك شباباً لا ينتهي ونفساً لا تهرم لا تتعب لا تشيخ ولا تشيب.

= هل تشيب النّفوس!
_ تشيب.. نعم، نفوسنا كأجسادنا لها شبابها ومشيبها، لها ركضها الّلامنتهي ولها خطواتها العرجاء المتّكئةُ على نسيم الذكريات.

= كيف ترين نفسي؟
_ المهم أنت كيف تراها..

= لن تجيبي؟
_ تعرف مسبقاً الإجابة.

= أنا لا أفهمك..
_ حتى أنا.. في كثير من الأحيان لا أفهم نفسي.

= ومع ذلك.. أنا أحبّك..
_ وأنا أيضاً.. أحبّك.. أحبّك جداً.. ربّما.. أحياناً.. أكثر من نفسي.

= متى سنلتقي؟
_ بين ذراعَيْ رسالةٍ ما..

= هل ما زلت تكتبين لي كلّ صباح؟
_ وكلّ مساءٍ أيضاً.

= متى سأقرأ تلك الرسائل؟
_ ستقرؤها حين أرحل، ستقرؤها مع النّاس، ستقرؤها بين صفحات كتاب، بل ربّما.. كتب!

= متى سنبدأ معاً رحلة الرسائل.. متى سنستقبل رسائل النّاس؟ متى سنردّ عليها؟ متى سنتبادل معهم الحنين والحزن والفرح والأماني والأفكار؟
_ قريباً، قريباً جداً.

= ما معنى “جداً”؟
_ تعني أمان الجنين في رحم أمّه، وسعادة الطفل في بيت جدّه.

= جداً أنتِ؟!
_ وجداً أنت.

#انتهى.
آذار 2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *