فراشة

البتر علاج ما استعصى شفاؤه، حلٌّ جذريٌّ لمن أعجز الحلول ولم تفلح في طبابته العقاقير.
– البتر حب، قالت الفراشة وهي تشقّ شرنقةً احتضنت تكوّنها رغبةً بالبحث عن سرب الفراشات خاصتها واستعدادًا للرحيل إلى الأبد.
= الجبر حب، قال الغصن الذي حمل رقتها وورقتها ويرقتها متحمّلًا بطء التشكّل متشوّقًا للتأمّل من بعد نضجٍ متناسيًا أنّ ذلك النقص بتفتّق الجناحين يكتمل، أنّ القوة للضعف لا تحتمل، أنّ الأجنحة الزاهية خُلقت كي ترفرف كي تحلّق كي تسابق كي تطير، وأنّ الفراشة موقنة بانتمائها لحديقة فراشات مذهلة بما يدفع الشك دفعًا لا محاباة فيه.
كان على الغصن أن يتعايش مع حقيقة أنّ استحالةَ ذات الأجنح استحالةٌ بالمعنَيَيْن، وأنّ بهاء الأرواح في الرحلة يضج حين تُحقّق رسالاتها بأسمى ما تستطيع الأنفس فالقلب يجهد ما استطاع بأن يصير.
كان عليه ألا يتعلّق باليرقات ولا بالشرانق وألا يتوهّم أنّ الفراشات بالضرورة ستسعى سعيها ما سعت وهي به متعلّقة، وأن يعترف ولو سرًا بأنّه ليس قويًّا بما يكفي لكي يكون للآخرين قوةً هو الآخر، وأنّ جذعًا وغصنًا في عالم الأقوياء ليس يشتبهان.
– لا تفهمينني.
= أنت الذي لا؛ كلّ بترٍ يصل النفس بنفسها جبرٌ ليس يُنكَر، الاتصال الحق بالنفس حرية من بعد ثورة لا تُقهر ولا تتقهقر وبالتأكيد ليس تُكسر. الحرية فرض عينٍ على كلّ نفس أبيّة. البتر جبرٌ وبعض البتر أسرارُ.
– بل كلّ البتر قهّار..
= ماذا قلت؟ أعد لطفًا؟ كأنّني لم أسمع؟
– …
= …
*****
أعلم أنّ شيئًا ما يحدث بدقةٍ متناهيةٍ هناك، على المرء أن يخشى ما يعلم في الحقيقة؛ وأعرف أنها تملك كواليس لا تشبه ما نعرفه عن الكواليس في شيء. رغم بؤس الانتظار آثرت أن أنتظر، فبعض الانتظارات البائسة في الحياة أحيانًا تنتصر.
لماذا ننتظر؟ كيف نزج بأنفسنا في زنازين ترقب الأشياءات المعتمة؟
هل قلتُ أشياءات! أهكذا تُكتب؟ أتُذيّل مثل هذه المفردة بالتعجب أم بالاستفهام؟ هل صرتُ مثل ذلك أقول ما لا يشبهني وأحسب أنّني أشبهه؟ كيف؟ النبض سلطانٌ متغطرسٌ يا قلمي وعنده لكلّ الكَيفوات أجوبة.
= أكتبتُ كَيْفوات أيضًا؟ ما الذي دها حرم البيان العزيز؟ هل يعني المرء حقًا ما يكتب مثلما يعني كثيرًا من الأقوال ما يقول؟
– لعلّنا نقول ما نعني تارةً غير أنّنا لا نعني ما نقول تارات.
= كيف حالك؟
– اسأليها.
= كيف حاله؟
– اسأليه.
ثمة أسئلة بين الأسئلة على الدوام لنا تلوم، كيف ولماذا حتّام وإلى أين، ربما لو اطلعت الأفئدة على إجاباتها مسبقًا لما صارت إلى ما صارت إليه.
= كم عمرك؟
– لا أذكر.
= كم عمرها؟
– خمسمائة، خمسمائة صباح النور أشرقت بين صباحات الفراشات صباحًا بعد صباح بكلّ نورٍ وحبورٍ وعافية.
= كيف يشعر من تُرنّم على مسامعه صبحًا كلّ صبحٍ: صباح الخير؟
– يشعر بأنّه زبرجديّ الروح بلسميّ المحيّا، يشعر أنه بخير وأن الدنيا بخير، يشعر بالسكينة والطمأنينة، بالرضا وراحة البال، يشعر أنّ الدنيا تستحق منّا أنّ نحاول وأنّ النفس تستحق منها أن نخاف، وأنّ الخوف ينبغي له من يردعه.
يشعر أنّه قويٌّ ويكأنّ الكون حيز له بحذافيره قاطبة.
= أيزداد المحبّ بقرب المحبوب قوّة؟
– ربما.
= لا تربرم ما لا تليق به الربرمة يا رعاك الله، بُح يا غلام من بعد التسمية، كن شجاعًا ولو مرّة بين السطور واعترف.
– …
= أخبرني، بماذا تحسّ؟
– لا أحسّ.
= بم تشعر إذن؟
– رغبة ببكاء منهمر، بكاء لا تحمد عقباه أو ربما هي محمودة من حيث لا أدري، رغبة عارمة بالبكاء فحسب ولا رغبة لي سواها، أريد أن أفهم، أما زالت فراشتي من الأحياء لأبتغي منها دفئًا أم أنها صارت إلى الأموات لأدعو لها بالرحمة؟
= لم تكن فراشتك، ادع بالرحمة وامض من حيث جئت ولا تبتئس.
– لماذا؟
= صن ما بين حاجبيك بالنأي عن اللماذوات ما استطعت ولا تبالي.
– …
= هل تذكر ما قال درويش يا زبرجد؟
– أنا الذي أذكر.
= “أثر الفراشة: ..
– لا يُرى.
= أثر الفراشة: ..
– لا يزول”.
عش درويشيًا يا صديق؛ محمودٌ من يثق بالفراشات، وأثر الفراشات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *