قَطْر النّدى

= ماما: كأنّنا تأخّرنا.
_ خالة: هل سنصل على الموعد المحدّد ويتسنّى لنا مشاهدة زفّة العروس من بدايتها؟

* نصل إن شاء الله، نصل.

أسئلةٌ استمتعتُ بسماعها أثناء قيادة السّيارة توجّها إلى الزّفاف الموعود؛ كان اللّطف من حولي يضجّ ضجاً ولم أعرف من قبلُ أنّ له ضجّة، سبعُ أميراتٍ ببهاء السّماوات لَمَعْنَ وتألّقنَ كأحلى نجمات، تُثرثرن عن هذه الليلة منذ أشهر، حوريّة من الحور العين استقبلتنا اسمها ميّاس، ارتدى ملاذ فستانٌ أحمر، وتميّز باللّون الورديّ فستان روان، وعلى اللّون الأسود الذي يليق بهما اتّفقت سيلينا وإيمان، وصلنا، يتورّد خدّا ريتاج وتبتسمُ بحياءٍ لتُخبر الصّديقات أنّ خالتَيْنِ طلبتا رقم هاتف والدتها منها؛ ثمّ أكملت فرحتها مع الصّبايا ولم تفكّر بشيء ولم تَخشَ شيء، ليس لأنّها صغيرةٌ بعض الشيء، وليس لأنّها الأولى على الصفّ فحسب، إنّما لأنّها الطبيبة الجرّاحة الواعدةُ التي تعمل على أن تكون كذلك وكلّنا نعلم، وبإذن الرحمن يكون لها بتوفيقٍ منه ما تبذل الأسباب جاهدةً إليه وتسعى.
هذه ليست خاطرة، ربّما هو نصٌّ انطباعيٌّ عن مشاعري كأمٍّ تحضر زفافاً مع ابنتها وشلّة صديقاتها المقرّبات ليلة البارحة وتعرف أنّ أفراحاً عامرةً على الطّريق نحوها قادمة، وما أحلى من ذلك القدوم؟

حفلات الزّواج من المناسبات التي نعود فيها افتراضيّاً ساعات معدودة إلى الوطن فيرافقنا طيفه أثناء سهر لياليها، ربّما بسبب ملامح العادات والتقاليد التي ترافق بهجتها.

تختلف هذه العادات بين مدن البلاد بل بين عائلاته، بل تختلف بين سكّان كلّ مدينةٍ عن غيرها؛ البعض يكتفي بزفاف الشّابّة بين النّساء، والبعض يفضّل أن تزفّ برفقة الشّاب على مرأى الحاضرات لما جرى عليه العُرْفُ بأنّ تلك طريقة إشهار لمن لديهم عدّة أبناء وبنات لتمييز مَن الذي عقد قرانه على مَن.

لدينا عادةٌ أحبّ رؤيتها أكثر من باقي العادات، أحبّ أنّ يَزُفّ محارم العائلة ابنتهم، هذا المشهد فيه عزوةٌ لصغيرةٍ ترعرعت بينهم عمراً هنيئاً وتنتقل لهنيءٍ آخر هذه الليلة.
في منتصف الحفل يتم اخطار المدعوّات بضرورة ارتداء الحجاب لأنّ الرّجال ستدخل إلى الصّالة، نسمع صوت العراضة الشّاميّة عند بابها يَزفّون سعيد الحظّ، يدخل الأب مع ابنه إلى صدر الصّالة ويعتليان المنصّة؛ على الطّرف المُقابل وعلى بُعد عشرات الأمتار يأتي الوالد محتضناً ذراع جوريّته ويمرّان بين الحضور على بساطٍ أحمر وصولاً إلى الجهة المقابلة ليسلّمها لمن أسلمت بكلّ حُبورٍ قلبها إليه وقبلت بعد استخارةٍ أن تكون بقيّة العمر عبقَ عودٍ لراحتَيْه ونور وجودٍ لناظريه.

زفّة الأمس كانت من أرقّ ما شاهدته حتى اليوم، لمدّة سبع دقائق وأكثر ننتظرُ بشوقٍ ظهور الوالد وابنته على الجهة المُقابلة فلا يظهر؛ ثمّ فُتحت البوّابة، عليهما أن ينزلا دَرَجاً من خمسٍ وعشرين درجة تقريباً قريباً من عدَدْ سنوات عمرها، ستنزل برفقته الآن كما أنزلتها الطّبيبة بين ذراعيه منذ عشرين عامٍ وهُنيهة!
تأمّلَت عيون البنيّات الفستان الأبيض الفتّان الذي تحلمن به ليلةً مّا والذي ظهر أخيراً، أمّا الأمّهات فانشغلن بما هو أجمل بكثير؛ يتساءل القارئُ مع نفسه: أيّ خلّابٍ قد يخطف الأنظار والقلوب أكثر؟
ظَهَر الأب، وظَهَر معه شَيْبُ العمر الجميل، ظهر الرّفقُ والحبُّ والرّحمةُ والوقارُ والحنانُ في مشهدٍ لن تنساه القوارير، ذكّرني بوالدي جعل الله له نوراً كيف كان يودّعنا يوم الزّفاف بدمعاتٍ لا يستطيع اخفاءها فيمضي ونمضي ثمّ يكتب في ليلة كلّ بنيّة من بنيّاته خاطرة يهديها لها لاحقاً للذكّرى؛ لكنّ العمَ تجاوز مرحلة الاستطاعة المتعارف عليها إلى مرحلة عدم السّيطرة تماماً، لم أرَ في حياتي والداً بكى بكاءً منهمراً كما رأيته، بكى وراح يداري عينيه بكفّيه وابنته تشّد الذّراع بالذّراع إليه وراحت كلّ الأمّهات والبنات تبكين معه وعليه، وكأنّه مع كلّ درجةٍ من تلكم الدّرجات يتجاوزها معها بالنّزول رويداً رويداً يتذكّر ذكرى ويدعو دعوة، ويستذكر شريط العمر على عجلٍ خطوةً بعد خطوة مع اللطيفة المهذّبة الحلوة.
= بالأمس كانت تنتظرني خلف الباب، تفرح حين تسمع خشخشة المفتاح، أنسى غضبي وتنساني همومي حين تقفز إلى حجري مساءً: بابا تحكيلي حكاية، أحبّ حين تقبّل يدي قُبيل النّوم فيُقبل الخير كلّ الخير على روحي من دفءِ قُبلة، أحبّ تفكيري بها حين أمرّ من قسم الحلويّات في البقّالة، أحبّ عينيها تفرح لقطعٍ صغيرةٍ من شوكولا أرفعها لها حين تخرج ظهراً من المدرسة، أحبّ ثقتها بي: بابا ممكن تعطيني كذا، بابا معلش أسألك عن كذا، بابا حتسمحلي أروح لعند رفيقتي بكرة، بابا الله يوفقك بدّي من هَيْ، بابا بتقدر تشتريلي مِنْ هديك؟ بابا أخي زعّلني مبارح، بابا كأنّه ماما زعلانة منّي اليوم.. بابا وبابا وبابا ومية ألف بابا ووالله وبالله وتا الله ما عرفنا بهالعمر كلمة بتشبه سلام كلمة: بابا.
وأخيراً، وصل الأب إلى الأب، ووصلت العروس إلى العريس، وتلاقت الفرحتان وصارت عائلةً واحدةً العائلتان؛ وأدرك الشّاب أنّ كلّ ما أنفقه على ذهبٍ وبيتٍ ومهرٍ وحفل زفاف ومشترياتٍ لا يزنُ دمعةً واحدةً من دموع والد عروسه، أدرك أنّه يصبح أباً مثله خلال سنين ويُعالج ما عالج ويحسّ ما أحسّ فعليه أن يعمل على حفظ الأمانة الآن كي تُحفظ أماناته بعد حين.

في تلك الأثناء راحت شهدُ تلعب بخاتم خنصرها الأيسر تديره وتدوّره وتدور معه لا شعوريّاً برفّةٍ وخِفّةٍ بيننا فلا تعرف ولا نعرف لماذا، كما كانت عينا روند تدور أيضاً مع كلّ ما يدور حولنا، خيّل لي أنّنا نلعب لعبة فتّحي يا وردة، غمّضي يا وردة، ومع كلّ تفتيحة تُخطب وردةٌ من بستاننا، وبدا للحظةٍ أنّ كلّ تفصيلٍ في تلك الليلة يتمايل معنا بسرورٍ وابتهاجٍ ومرح.

استيقظتُ على اشعار رسالةٍ نصّيّةٍ تمام السابعة صباحاً، ثمّ ذهبت أو بوصفٍ أدقّ هرولتُ إلى عملي متأخرةً عشرين دقيقة: “المكرم ولي الأمر نفيدكم بغياب ابنتكم لهذا اليوم”.

= المدرسة العزيزة: يؤسفني أنّ رسالتك وصلت للأميرات النائمات السبع، حاولنا معهنّ ليلة البارحة بشتّى الحِيَلِ أن يتفرّق الجمع لأنّ الحفل قد انتهى متأخراً بعد ساعة ونصف من سَبْق سندريلا لنا تمام تعانق العقربين ولا بدّ لنا من عودة مثلها للبيوت بلا جدوى، أجمعن على أنّهنّ ستتغيّبن غياباً جماعيّاً يليق بهكذا ذكرى، وأنّهنّ ستُرفقن بطاقة دعوة الزّفاف بعُذْرهنّ الموقّر العظيم وستخبرن المرشدة الطلّابيّة أنّهن لا تملكن إلا جودي واحدة: “كم جودي عندنا يا خالة؟ كم؟”

4 أفكار عن “قَطْر النّدى”

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    نصٌ عجيب وإلقاءٌ أجمل
    أخذني هاذا النص لذالك اليوم،
    أعاد لي كل دقيقة وثانية قد حدثت فيه.
    كان يومًا سعيدًا جدًا.♥️
    أمّا أنا فمازلتُ إلى الآن ألبس ذلك الخاتم الذي ارتبطت ذكرياته معي بتلك الحادثة المضحكة
    كنت حقًا لا أعلم بما أفكر 😂😉

  2. ريتاج صراميجوl

    لا ادري بماذا أبدأ ، هل ابدا بجمال النص او اسلوبه او لطافة الكاتبة اخذتني وسحرتني الى عالم آخر ، لامست كلماتك الدافئة قلبي ونقلتني الى عالم اخر، أعدت لي تفاصيل ذلك اليوم الجميل الذي لن استطيع محيه من ذاكرتي واخجلتني ورسمت كلامتك السعادة على وجهي شكرًامن كل قلبي على مدحك وثناءك علينا لاخبرك سرًا عيناك جميلتان جدا لذلك لم ترِ الا خصالنا الجميلة وأما عن نفسي فكلامك عني وعن طموحي وحلمي فهو دافع قوي لاكمل مسيرتي اشكرك ، يالحظ ايمان بامتلاكها جوهرة وام مثلك وكم سعدت وتشرفت في التعرف عليك وإيماني بوجود أناس طيبين مثلك لا يزال حيا بفضلك . ريتاج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *