أشرر

_ على عكس ما جرت عليه العادة، أن تبدأ الرسائل بالتحايا والأسئلة، تبدأ هذه الرسالة من المنتصف، تلك هي الطريقة الوحيدة كي أستطيع اكمالها وارسالها، لقد مللت وأنا أكتب لك رسائل لا تكتمل، وأحتفظ بملفّات لا ترسل، أقول سأكملها ولا أفعل، أقول سأعود إليها وما من عودة.

= لا توجد عادات يا عزيزتي، عاداتنا نحن من يخلقها ونحن من يخضع لها بإرادته ونحن من عليها يتعوّد بإرادته، ابدئي رسالتك من حيث شئت، أياً كانت الرسالة، أياً كان المرسل إليه، وأياً كانت العادة.

_ لا تشبه أحدا يا عزيزي، لا تشبه، لو أنّ رحمة الله تهدى إليّ وأعثر على أشباهك الأربعين شبيهاً بعد شبيه سأكون ممتنّة، أريد أن لا تفتقدك الدنيا يوماً، وأن يقول كلّ واحدٍ منهم للآخر أنّ ثمّة زبرجدٌ في مكانٍ مّا، شاء الرحمن أن يعتدل بمراسلته بعض اعوجاجي، وأن يضرب بالكلمة على ظهرٍ شرق بماء الحياة حتّى كاد أن يستسلم، حتى كاد أن يضيع..

= أشبه كثيراً يا بلسم، أنت تلتقين بهم يوماً تلو الآخر، حتى أنّني إذا ما افتقدت ثرثرتك قلت لنفسي أنّها ربّما تثرثر كتابةً مع زبرجدٍ جديد محظوظٍ سعيد، تبحث داخل النفوس عن آلامٍ تستحقّ أن تمسح عليها بمسحةٍ من اسمها الغريب الذي لا تحبّه، أن ترطّب الخواطر وتلطّف الأجواء وترحل من حيث لم تأت إلى حيث لا يعلمون.. ولا ترحل ثرثرة أقلامهم بعد رحيلها المباغت كحضورها أبداً.

_ لا تشبه زبرجدي.. لا تشبه، ربّما كلانا لا نشبه، كنت أتأمّل ملامح حُزامة، وأتأمل ملامح محمود، وأتأمّل حالنا، وأتأمّل أسباب كلّ كاتبٍ فيما كتب.. فيما يكتب وسيكتب، ليس الكتّاب سواسية، وليست دوافعهم كذلك.
أنا.. أفتقده كثيراً يا زبرجد.. أفتقد أحداً مضى دون أن يمضي، أفتقد أن أقول له شكراً! أن أقول أنّ الله مطّلعٌ على السرائر، أنّ الله علّام الغيوب..

عمارتكم جميلة، كنت أبحث عنها بقلبي قبل عينيّ، أتذكّر صورتها التي أرسلت لي، وأتذكّر أنّك حدّثتني عن قصة شراء ذلك المنزل الجميل، وأفكّر.. كم سمعت منك عن هذه العائلة، أختٌ توفّي زوجها مقتبل عمرها، وأختٌ تدرس العربية، أختٌ كانت تعيش مع الوالدة وبقيت اليوم من بعد رحيلها وحيدة، فكانت كلمات الرسائل ترفرفُ فراشاتٍ زاهية الألوان حول عينيّ وأنا أفتح بوّابة العمارة، لأتجه نحو باب المصعد، وشيءٌ ما في قلبي يقول بشغب: من ها هنا مرّ عزيزي على عجلٍ منذ شهور، هذا العزيز أشرر عزيزٍ عرفته في حياتي! جاء على عجلٍ بعزّ برد الشتاء كي يتأخّر ميعاد شراءه لشوكولاتتي عاماً آخر، أنا أعرف.
وأعرف أيضاً أنّ نظام القراءة الخاص برئيس التحرير خاصتك توقّف عند كلمة أشرر وقفة انبهارٍ وتساؤل: من أين اشتققت هذا التعبير يا تلميذتي؟!
لست أنا من فعلت هذه المرّة، لست أنا، إنّها ميس اللطيفة، حملت لها لعبةً جميلةً من الرياض إلى عمّان، قدت السيارة لأوّل مرّة من بيتنا إلى عجلون، لم تكن قيادةً سهلةً على جديدة عهدٍ بهواية التصوير أن تقود بين جبالٍ خُضرٍ كأنّها من الجنّة مثل ذلك.
وَصَلَتْ الخالةُ تحمل اللّعبة، وكيسا كبيراً من حلويات، وهديّة لوالدتها التي تصغرها بعشرة أعوام، فتحرص وتواصل السؤال عنها ودعوتها إلى بيتها وزيارتها لأنّ والدتها صديقة العائلة منذ الطفولة المبكّرة، وقد حالت بيننا منذ أربع سنوات الغربة التي جرت على معظم السوريين من الخليج إلى تركيا فعسى ولعلّ أن يأذن الله بحالٍ للجميع أحسن ممّا هم عليه.

= يا إلهي يا بلسم! يا إلهي.. واضح أنّ الاستطراد يجري في عروقك، كنّا عند مفردة أشرر.. كيف وصلتِ إلى هنا!
_ أعلم يا عزيزي أعلم، كنّا عند أشرر وما زلنا، عندما ناولتُ ميس الهديّة.. كانت والدتها منهمكةً في سرد أحوالها إليّ، حال صبيّة كانت تعيش حياة الديليفري والمولات في الخليج كأيّ آخر عنقود مدلّعة مدلّلة، لينتهي بهال الحال إلى زوجةٍ في عمارةٍ عائليةٍ تسكن فيها حماتها فوقها وسلفتها تحتها ولا مجمّعاً تجارياً ضخماً واحداً في عجلون بعد.. ولا ديليفري ولا حياة المارشميلّو ولا ما يحزنون كما يقولون..
تريد ميس فتح صندوق اللعبة، فأشارت لها والدتها أن تذهب إلى والدها كي يساعدها بفتحه، فعادت ذات الستّ سنوات بعد دقائق إلينا مقطّبة الحاجبين: بابا مشغول، فقالت ماما مداعبةً: بل بابا شرير، هاته لأفتحه لك، ضحكت ميس بلطف الأطفال وعلّقت تعليقاً مازحاً مفاجئاً: أشرر واحد بالعالم.

وهذه قصة مفردة أشرر يا عزيزي، كي لا تنسى شوكولاتتي ما حييت، أبداً أبداً يا.. عزيزي.

= لماذا تفتقدين زبرجد؟ لست أفهم من الأشرر الآن.. النّاس أم عقلك الصغير يا بلسم..

_ قلبي.. قلبي الذي لطالما تمنّيت أن يتبادل الأدوار مع عقلي، كم تمنّيت أن يكونا العكس وأرتاح، عقلٌ كبير وقلبٌ صغير وتنتهي كلّ المشاكل والمطبّات، لماذا أفتقده.. لا أعلم، ربما لأنه رمضان الأول، ربما لأنّه العيد الأوّل.. وربما “ربما” نفسها لا تعرف لهذا الفقد الأشرر في عمري أي تفسير، ربما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *