فقد

كيف حالك؟
هل مثل ذلك تبدأ الرسائل؟
أفتقدك؟
هل يوجد في اللغة مفردةٌ تعبّر عن الفقد تعبيراً بليغاً كما يعنيه الفاقدون؟

اشتقت إليك، وأعلم أنّك تعلم، وأعلم أنّك مثلي.. تفتقد وتشتاق، غير أنّي لا أعلم كيف يشتاق الإنسان لمن لا يعرف، كيف يدعو لمن لم يلقه بعد، ولا يدري إن كان يوماً سيلقاه، وكيف يكتبه كلماتٍ يدرك أنّها ستحفّ جهاته الأربع كلّ يومٍ بل كلّ ساعة.
ما أعجب الحبّ كيف سحر قلوب البشريّة بلا استثناء، كيف كان لكلٍّ منّا من نبعه الرقراق نصيب، كيف كان الحبّ ومازال وسيبقى مرتبطاً بالرضا، بالجمال، بالاكتفاء وبالصبر وبالأمل وباليقين.
لماذا لا تملّ النّاس الرسائل والنصوص المكتوبة عنه؟ كيف ينبض القلب مثل ذلك النبض السريع حال سماع حكاية حبٍّ جديدة لأوّل مرة، كيف أحبّت أمّ النور أبا النّور يا تُرى؟ أيّ حبٍّ غمرها به كي تخبّئ له هذا النبض بعد رحيله سنيناً وسنين.
كانت تبلغ الثالثة عشر حين خُطبت له، العمّة الحسناء، سلّمت قلبها وعمرها للعمّ الوسيم، بيتٌ صغيرٌ هادئٌ لطيفٌ آخر بُني على أساسٍ من الحبّ عظيم، بيتٌ حوى كلّ نورٍ من أنوار الله ما عدا نور نفسها، وكحال تلكم الحكايات.. خُيّرت الصّبية ذات خيارٍ يشقّ الوجدان شقاً ويُمتحن به الإيمان بين أن تبقى وبين أن تُسّرح سراحاً جميلاً، فاختارت أبا النّور نوراً كافياً وافياً عن كلّ نور العالمين.
لعلّ أجمل ما في قصص حبّ شركاء الحياة.. حين يتساءل السامع أن يا ترى أيّهما كان يحبّ صاحبه أكثر؟
ستتساءل عدة مرات، قد تصل إلى جواب.. ستقنع نفسك به، إلا في حالة عائلة النّور هذه، فما من أحدٍ وصل إلى ذلك الجواب.
تمام التاسعة عشر، توفّي أبو النّور شاباً لم يُكمل ربيعه الخامس والعشرين، في ذلك الزمن العجيب.. ربّما لم يكن عجيباً تماماً أن يتزوّج شابٌّ في عمر التاسعة عشر! ولم يكن عجيباً أن يقطف وردة الجيران التي أحبّ منذ الصّبا لتعطّر حياته بهدوئها الرزين.
تمام التاسعة عشر، يدخل المعزّون إلى ذلك المجلس جماعاتٍ وأفراداً، وبدلاً من أن ترتدي الأسود حزناً، ارتدت أبيضاً يليق ببياض القلب الذي غمرها به بعض سنين.
تتهامس الخالات.. أنّها ستنسى، لا بدّ لها أن تنسى، أنّها مازالت الأجمل، أنّ حسنها ضجّ قبيل العشرين، وأنّها تصلح زوجةً لفلان، وأنّها ستنجب أطفالاً بإذن الله، وأنّ الحيّ أبقى من الميّت، وتثرثر الثرثارات ثرثرتهنّ المعتادة دون أن تأبه لها الصّبية، وتخبّئ العزيز بين حنانيها وكأنّه النّور الأبديّ الذي لم تنجبه، وترسم على الشفتين بسمة رضىً بما قسم الله وتحيا حياتها من بعده بقوّة كما لو أنّ فقداً لم يكن، وعزيزاً لم ينتزع القلب من بين الضلوع مهاجراً إلى البعيد، مرتحلاً إلى البعيد جداً إلى حيث لا رجعة، حيث لا يعود المهاجرون إنّما نهاجر إليهم، حيث تلتقي كلّ النبضات التي اختلّ توازنها هناك، حيث الإيمان بأنّ جنّةً ستجمعنا برحمةٍ من الرحمن وفضل، وحيث ستكون السعادة سرمديّة.
التخلّي عن الشعور بالفقد قرار، قرارٌ يتطلّب كثيراً من شجاعة، قرارٌ ليس سهلاً بالتأكيد، لكنّه بعد مجاهدة قد يكون أفضل ما قرّرناه في حياتنا..
تأمّل الكون حولك.. من منّا لا يفتقد شيئاً ويتمنّى لو أنّه بين يديه..
قد يكون المفقود شيئاً محسوساً، أو شعوراً معنوياً، أو شخصاً، أو أياً كان، جميعنا يفتقد، وليس الجميع يعرف أن يتعامل مع الفقد بإيجابية، بأمل، بحبّ، بيقين بأن الفقد يعقبه لقاء، بأن الليل يعقبه صباح، أن تلك الليالي التي عانقتنا فيها الوسادات على وشك أن تغيب، أن تلك الوسادات تتعطّر استقبالاً لزوّار عمرٍ في الحياة جدد، الفقدُ على موعد نورٍ معهم ولو بعد حين، يا أبا النور العزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *