ياء

يؤسفني أنّك لم تسمع يوماً كيف أضمُّ ياءً للحرف الأخير في اسمك، هذه الياء أحبّها كثيراً، ربّما للحروف فلسفةٌ خاصة، هذه الياء في الختام تعني لي الكثير، أحبها.. أحبها فقط.

تقول: لقد تغيّرت كثيراً، لم أعهدك تكتفين بقول: فقط، لطالما كنتِ الثرثارة التي لا تملّ، التي تبحث عن اللّاشيء، أقصد عن كلّ شيء، مفاجأة ألفين وواحد وعشرين التي ألقاها في دربي الزّمان وهرب.

أقول صدقت، لقد كبرت في هذا العام كثيراً، هذا عام عشت فيه مئات من الصراعات النفسية، وعشت آلاف المناجاة مع الله، سألته الكثير، ولم أعرف أجوبة أسئلتي كلها بعد، ومن منّا يعرف كلّ الأجوبة قبل أن يرحل عزيزي؟
الياء ثانيةً؟! يا إلهي..
جميلة، بمعنى الكلمة جميلة، الأجمل أنّي أظنّ أنّك الشخص الوحيد الذي أتعرف عليه بهذا الاسم، كنت محظوظة في هذه السنين التي أكبر فيها مع أبنائي أنّ أحداً ما يمتلك ياءً ملتصقة التصاقاً أبدياً باسمه كان بلسم أيامي بدلاً من أن أكون كذلك، شكراً لك، شكراً عدد ما خفق قلبي وسيخفق، وعدد ما أدعو الله أن ألقاك على خير.
إذا مرّ الزّمان..
وأصبحت في عمرك، سأقول لمن هم في عمري الآن سراً لطيفاً عرفته مبكراً نسبياً من أسرار الحياة ويبدو أنّك تعرفه بالفعل منذ ثلاثين عام: تبدو كلمة عزيزي منصفة جداً.. تخبّئ بين جناحيها محبّةً واسعةً لا يستحقّها عابرٌ في العمر عاديٌّ والسلام..

أمرّ هذه الأيّام بأتعس أيّامي، أبكي كثيراً، لديّ حوارات كثيرة مع الله، أسأله وأسأله، وأعلم أنّ الخيرة فيما اختار وسيختار، وأعلم أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأعلم أنّ السعي سوف يُرى، وأعلم وتعلم أنّنا سنجزى الجزاء الأوفى ولا أوفى من جزاء ربّ السماء.

أنا بمعنى الكلمة تألمت حين لم يكتب لنا لقاء في تلك السّفرة المفاجئة، أتذكّر اليوم كميّة المرات التي قلت أنّي أحبّ أن يكون تعارفنا في الجنة، أن أعرفك على والدي، أن تشهد ضرب الأستاذ، أن نضحك أنا وأنت وصديقتي، أن نرى أنهاراً من شوكولا، أن ينطلق لسان أميرتك بالعربية، وأن تركض أمامنا طفلتكما الأولى الحلوة التي سمّيتُها نور.

لديّ مشاكل مع نفسي وأبنائي هذه الأيام، أنا منذ عام أعبّر أنّي بحاجة لإجازة، ويبدو أنّ هذه الإجازة لن تكون إلا تحت التراب ولكنّني أعاند، ثمّة شيء يجعلني دوما أشعر أنّي متأخرة، شيء لا يتوقف عن جلدي، شيء يخبرني أنّي الأسوأ، أنّي ما زلت أخطئ، وسأخطئ كثيراً بعد.

أنا أحبّ نور كثيراً، أحبها كما لم أحبّ طفلاً من قبل، أحبّ أنّي سمّيتها، أحبّ الكلمات التي كتبتها عنها، أحبّ أنها أحدٌ يقول لي سراً أنّ زبرجد قد يكون مثلها.. بعيدٌ جداً، يسكن هناك، وينتظرني هناك، وأنّ بعض الناس لا وجود لهم هنا.. لأن جمالهم يتألّق بكونهم هناك وهناك فقط.
أنا لا أنجّم ولا أستبق القدر، كل ما في الأمر أني أريد تصديق شيء يخيفني: أنّ الله يريد امتحاني هل أفلح في تربية الطفلين أم لا، هذا شيءٌ صعبٌ جداً، صعبٌ جداً يا ربّي، همٌّ أسأله تعالى كلّ ليلة أن يهبني منه قوّةٌ تساعدني على اكمال المسير، على تخطّي العقبات، على وأد الخوف من كلام النّاس، وثرثرة الناس، ونقد النّاس، وتوجيهاتهم لكلّ أمٍ تحاول أن تكون أماً وأباً في الوقت نفسه.

تُخطب اليوم ابنة قمر، قمر ابنة العمة الأغلى، رفيقة الطفولة، تصبح حماةً، لديّ شعور مُريع حيال ذلك، ذلك الإحساس المشاكس الذي يقول لك: وأنا أيضاً.. أريد أن يكبرا ويذهبا لبيوتهما وأرتاح من مهزلة التربية التي ستذهب بعقلي وتتلف صحتي بالنهاية، وفي نفس الوقت يقول: أنا لن أسمح لهما أن يتزوّجا أبداً! بعد هذا الصبر.. أريدهما معي للأبد، أريد أن يقطفا الثمار أمام عينيّ، في بيتي أنا، أريد أن نصنع عائلةً كبيرة، كبيرة جداً بدل تلك التي لم أحصل عليها كما كنت أحبّ وأتمنى، لن تتخيّل عدد الأطفال الذي كنت أودّ انجابه، لن تتخيّل، للأسف.. أعلم تمام العلم مسبقاً أن شيئاً من هذا لن يحصل، ليس لأني لا أستحق أن تتحقق أحلامي، وليس لأن الله لن يستجيب.. حاشاه، إنما لأنها سنّة الحياة ألا مستقرّ حتّى النهاية.

أريد أن أشكرك من وسط أيامي التي تبدو متعبةً جداً، كم كان جميلاً أنّي لا أحبّ أن يقضي لي حاجاتي أحد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، كم كان جليلاً كبرياء المسلم على الأرض، وكم كان متعباً في الوقت ذاته أيضاً؛ كنت أدرك أنّ آلافاً مؤلّفةً من البشر ومن الوالدات والآباء يجاهدون في الحياة مثلي، وكنت على يقينٍ أيضا أنّ الله رأى ويرى، وذاك أعدل ما في القدر، أنّه مطّلعٌ على السرائر عالم بالأحوال علّامٌ بالغيوب.. ولكنّي تعبت.. أنا أتعب أحياناً.. غالب الليالي بعد أن يناما أبكي.. من قال أنّ الأمهات لا تبكي؟ لا أدري..

اليوم الذي لا أقول لك فيه صباح الخير.. لا أحبه.. ولا يحبّني..
واليوم الذي أقول لك فيه: غداً يومٌ أجمل.. أحبه كثيراً.

واليوم.. استيقظتُ مبتسمةً ابتسامةً يُفترض بأن تُضحكك، بأن تقول: هذه الأمّ لا يحزر القارئ إلى أين قد يشطح بها خيالها المجنون، في الحقيقة لا أعرف إذا كانت كلمة يشطح من العربية الفصحى ولا أريد أن أبحث في المعجم وإن كان ذلك لن يستغرق ثوانٍ مع العم قوقل، لأنّي كتبتها وفَهِمْتَها ولتمض بقية الرسالة المستعجلة في سبيلها، المهم.. لماذا أتوقع أن تبتسم؟ لأنّنا سنعود إلى عمى الأعمار الذي أتمتع به عافاك الله منه.. كنت أفكر اليوم أنّ لديّ شعوراً سلمياً رائقاً عطراً طيباً حلواً تجاه أميرتك، لا يشبه أيّ شيء من مشاعري تجاه زها، لا أعرف لماذا ما زلت أرغب برؤيةِ صورةٍ واحدةٍ لها حتى بعد أن أصبحت في مثل هذا العمر، لا أعرف لماذا لم أتصالح معها، نستطيع أن نقول أنّ ذلك شيء لن تفهمه، ليس لأنّك أقرب للمسالم، إنّما لأنّ ذلك شيءٌ ممّا تحبّ فيه بعض النساء أن تحطَّ فيه واحدةً على بعضهنّ الأخريات لا أكثر.

المهم ثانيةً.. ليس هناك شيء مهم أكثر من أنّي “عند الله” وبين يديّ الله ، أبحث عن شيء، بل في الحقيقة أبحث عن أشياء، وكلّ ما سألتني: “وينك لهلأ” سأكون هناك، وليس غير هناك.
لديّ حاجاتٌ عنده، وأرجوه أن يمنّ عليّ بالسلام، بالرضا، بالقوة، حتى ألقاه لقاءً لا أخجل منه بل به أفرح.

أشكرك، بدل المرة ألف مرة، كنت سعيدةً حين ظهر لي أنّك تذكرتني برسالة، قبل أن أفتح التسجيل الصوتي، قلت لنفسي: ست ثوانٍ، لا شيء يتسع فيها أكثر من قوله: “وينك لهلأ”!
أحببت كثيراً أنّني وصلت معك لهذا المستوى من التخاطر الروحي، أن أتخيل المُرْسَلَ فيكون حقيقة.

أنا ممتنة لوجودك في عمري كثيراً، ممتنة للياء التي تضمك إلى أبنائي والثمين من ممتلكاتي، ممتنة لشعور أنّ هناك أحدا يستحقّ أن أكتب له رسالة، أنّ هناك من كان أهلاً بأنّ نفتقده ونتفقّده، بأن نحبّه، وبأنّ نختصّه دوناً عن الناس بتاجٍ بلاغيٍّ ملكيٍ حقيقيٍ يختصر المسافات بكلمة عميقة كالبحر تبتسم بسلامٍ قائلة: عزيزي.

كن بخير، كل خير.
في أمان الرحمن.
وغداً.. يومٌ أجمل.
ادعُ لي.. وادعُ لأولادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *