بابا

كانت الستّينُ الرّزينةُ قد ازدانت بهِ منذ عام، بدا أهدأ، الرّجل القويّ العصاميّ العصبيّ الوسيم.. الوسيم جداً والمهيب الذي يضجّ بالحياة رَفع الرّاية البيضاء حين قصّ شريط العقد السادس الأحمر، فبدأ بقصّ حكايات الطفولة والفتوّة لكلّ من نال شرف صحبته بعد صلاة الفجر حتّى شروق الشمس من جديد.
كان يحبّ الصبح ولعلّ الصبح كان يحبّه أيضاً، إن نام ينام نومَةَ محارب، يغفو على كامل الاستعداد لأيّ طارئٍ قد يوقظه، زقزقة العصافير في عمّان كانت تعجبه، صوت أوراق الشجر تحرّكها النسمات تُغنيه عن أيّ منبّه، لم أسمع في حياتي: “أصبحنا وأصبح الملك لله” بطمأنينة وسلامٍ مثل الذي كنت أسمعه منه، كان يذكرها مؤمناً تمام الإيمان متيقّناً خالص اليقين بسعة لفظ الجلالة: “للّه”.
كلّما طلعت الشّمس تردّد صوته في الذاكرة يمشي بين الغرف منادياً أقماره: “بورك لأمّتي في بكورها”.. ثمّ يرفع الصّوت قليلاً مرتّلاً: “والصبح إذا تنفّس”، فإذا ما تأخّرنا بالاستيقاظ غضب وردّد: ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلاّ النّوّمُ…
ستسمعُ في العمر بدل الحكاية حكايا، لكنّ تلك التي ستسمعها من والدك وتتعلّم منها ستكون الأقرب إلى قلبك بلا شك..
سترتحلُ من بيتٍ إلى بيوتٍ عديدة، لكنّ ذلك البيت الذّي اسمه: “بيت أهلي” سيبقى أوسعها مهما ضاق وأجملها حتى وإن قدم..
وستتذوّق في الحياة صنوف طعام لذيذة، لكنّ تلك الخبزة المستديرة التي كانت تلفّها لك والدتك بما تيسّر وجوده ساعة الجوع ستبقى الألذّ والأكرم والأشبع وإن كانت ملفوفةً على ملحٍ وزيت زيتونٍ لا أكثر.
سألته يوماً وعصّةٌ عصّت قلبي وغصّةٌ غصّت في حلقي لتُطبِقا معاً على صدري: بماذا تفكّر هذه الأيّام؟ أقصد.. أحبّ أن أعرف بم تفكّر؟ بماذا يفكّر من هو في عمرك يا والدي؟
كنت أريد أن أعرف متى يفكّر الإنسان بالموت، متى يستعدّ للرّحيل، متى تبدأ الأسئلة تلحّ عليه فضولاً عن ماهيّة المرحلة القادمة وكيفيّة الاستعداد لها.
سألته.. والحمد لله أنّي أُلهمت السّؤال..
نصّت الإجابة على أنّ المؤمن الفطن الذي يتدبّر معنى: “إلا ليعبدون” عمليّاً على أرض الواقع فيعبد الله العظيم بالجوارح والأعمال والنّوايا مهما صغرت لا بدّ له أن يكون مستعدّاً للرحيل وللآخرة في أيّ لحظة وليس بعد عمرٍ معيّنٍ فحسب.
ترتبط طلعةُ الصّباح ارتباطاً وثيقاً بصورة والدي في الذاكرة، ويرتبط جزءٌ من نعيم الجنّة الذي ندعو أن يبشّرنا الرّحمن به بأنّنا سنلقى آباءنا وأمّهاتنا هناك لقاءً أبدياً بهيّاً كصباحٍ بصحّةٍ وعفوٍ وعافيةٍ لا يعقبه ليل فرقةٍ ولا ظلام مرض.

جعل الله لوالدينا ووالديكم نوراً وجمعنا في جنّات النّعيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *