نوم

نامت اُمُّ السّلامِ نومتها الشتويّة الممتدّة إلى يومٍ لا بدّ أنّه آت، نامت مبكّرةً جداً عِشاء البارحة.. وهي التي لم تعتد نوماً باكراً من قبلُ مثل ذلك، نامت دون أن تتناول العَشاء، دون أن تُلاعب الحفيدة الأولى مرّةً أخيرة، دون أن تُسمع الأبناء: “الله يرضى عليكم ويرضيكم”، دون أن تدردش مع رفيق العمر دردشة المساء الدائمة.
نامت صفيّة السهر التي كانت تحلو برفقة أُنسها الليالي، نامت بهدوءٍ قضّ المضاجع التي لم تستطع نوماً من صخب أسئلة ما بعد الوداع الذي لم يحدث.
أرّقنا تأمّل الحياة.. سرعة حبورها.. فجأة عبورها.. معايير اختيارها للمغادرين حبيباً تلو حبيب.

نامت نعناعة الشاي نومتها الأخيرة، وتركت لنا ذكرياتٍ لا أحلى ولا ألطف.
صاحبة اليد الخضراء والخير الدّفاق سبقتنا على عجل، وصلت مبكّرةً للمرّة الأولى وهي التي اعتادت أن تصل متأخّرةً كعروسٍ إلى جميع اجتماعاتنا الوديّة ومناسباتنا الاجتماعيّة.
أتراها استبقتنا لتتفقّد لنا المكان، أم أنّها ذهبت كي تجهّزه لاستقبالنا فيه بزهاءٍ وبهاءٍ كعادتها حينما إليهما نصل؟
سنفتقد بسمتها، وإليها سنشتاق. شوقٌ يوازن بين شعورَيْ الخوف والاطمئنان كلّما خدش أفئدتنا الوجد وأرهقنا الحنين.

الحزن حالةٌ مؤقتةٌ والفرح شعورٌ منشودٌ أصيل، نُطمئن أنفسنا بذلك قلقاً بعد قلقٍ ورحيلاً بعد رحيل، الموت ليس حالةً عابرةً أو حدثاً مؤقّتاً بل هو رفيق الرحلة الذي لم يَدْعُهُ إليها أحدٌ لكنّه لم يَدَعْ أحداً من فرض نفسه عليه على طول الطريق؛ يتظاهر بالنَّعس، يتقلّب ذات الشمال وذات اليمين، نحسبه أحياناً قد نام فنضحك ضحكتنا الخفيفة، نطمئنّ طمأنينةً سخيفة، فيتثاءبُ ويقوم من غفوته قومَةَ قيامةٍ ليختلس غالياً على قلوبنا من بين أحضاننا من جديد، ثمّ يعاود التمثيل بأنّه قد نام. لنعاود التخيّل والتأمّل بأنّه قد ينام عن أحبّتنا حقاً ذات نَوْمةٍ حقيقيّة.. لن تكون إلا بعد قيام الساعة، ومن اعجاز هدايا آخرتنا أن نومته تلك ستكون بفضل الحيّ الذي لا يموت سرمديّة.

ترتبط الحياة بالموت ارتباطاً وثيقاً، كالليل والنهار يتعاقبان إلى أن تطلع الشمس من مغربها، كلّ حياةٍ في العمر يعقبها موتٌ وكلّ وفاةٍ لا بدّ أن توافينا من بعدها حياة.
بعضنا يموت وهو على قيدها، والبعض هو من يقيّدها بفطنة التعامل وحسن التخطيط والتدبير فيحياها حتى بعد الموت بصالح ما قدّم فيها من عملٍ وخلّف من أثرٍ وكأنّ موتاً لم يكن، تمضي حيواتنا بستر الرحمن بين أقدارٍ تُسيّرها وقراراتٍ تمليها علينا عقولنا نتخيّرها، كلّ منّا وهمّته، وبارك الله الهِمَم.

سيموت لك في الحياة أحبابٌ كثر، ستشعر أنّك محظوظ جداً حين تتوالى السنين بلا وفاةٍ واحدة، ستغبط نفسك أنّ عدد أخوالك ما زال مكتمل، وأنك ما زلت تستمتع بمناداة عمّاتك جميعاً لا ينقص من أسماءهنّ اسمٌ واحد، وتلك سعادةٌ ضبابيّةٌ مع الأسف لا تدوم، قدرٌ موقوتٌ يتبعها يصفعُ خدّ الروح صفعاً لا تشبهه الصفعات، فيلمّهم من أمام ناظريك تباعاً خلال عامٍ واحدٍ فقط بفضل فيروسٍ جديدٍ لا يرى بالعين المجرّدة، يفقدك توازنك بعدما كنتَ الثابت الذي لطالما أمنت قربهم ولم تخشَ بغتة اختفاء عطر أنفاسهم وسحر بسماتهم من عالمك.

يرحل الجدّ وتُكلَمُ الروح برحيل الجدّة، يغادر خالٌ وتتبعه بالمغادرة عمّة، وتدرك ذات وعيٍ مريرٍ أنّنا نرحل رحيلاً مرتّباً موزوناً كأحجار دومينو كانت زمناً طويلاً أمامنا مصفوفة، تسقط جميعاً بترتيبٍ مّا لا يفهم سرعته ودقة تنظيمه أحدٌ من بعد سقوط الحجر الأوّل في المجموعة إلى أن تسقط كلّها بلا استثناء.

سيرحل من يرحل، وستسمع تمتمةً أثناء عزاء: أيّهما أشدّ ألماً يا ترى.. رحيل الوالد أم رحيل الولد؟
سترى أجوبةً مختلفة، وستتعلّم أنّ بعض الأسئلة لا يُتفق على توحيد إجابتها، وأنّ سرّ تجاوز معركة النّضج بفلاحٍ يكمن في معرفة الإجابات الصعبة دون مساعدة صديق، وفي خوض تجربة الشعور الأليم التي تعلّمنا أنّ الألم هو المعلّم الأوّل والأجدر بالتعليم دوناً عن أيّ شعور، فلولا المرارة التي يجرّعنا إيّاها لما فهمنا حكمة الدرس ولما عرفنا كيفيّة استنباط الفائدة.

زهرة الكرز الحسناء.. نامي بسلامٍ عليك السلام إلى أن نلقاك على سلامٍ في دار السلام..
ستفتقدك المجالس، لن تكتمل بدون ضحكتك الضحكات، لن ننصت بشغفٍ لسردةٍ كما كنّا لحكاياتك الحلوة ننصت، لن يسأل الجميع بعد اليوم إن كنت إلى اجتماعاتنا الدوريّة ستأتين، سنترك لكِ ذلك الكرسيّ دوماً، بعض الأماكن توشم بأسماء أصحابها ويستحيل ملؤها بعدهم مثلما كانت بالجمال تمتلئ بهم.

تنتقل أسماؤنا بين قوائم أهل الدنيا وأهل البرزخ بخفّةٍ نغفل عنها بين مسرّات الحياة، يرحلون ويتركون لنا تأمّل سرّ الخلق والغاية من الوجود، نتأمّل لطف الرحمن الذي رزقنا رؤية كونٍ شاسعٍ ونحن الذين أُخرجنا من رحمٍ صغيرٍ لا يتجاوز حجمه قبل أن نسكنه تسعة أشهرٍ حجم حبّة كمثرى!

إن كانت هذه المجرّة العظيمة هي الآية التي شاهدناها مما خَلَقَ تبارك وتعالى بعد خروجنا الأول إلى الحياة من رحم الكمثرى الضيّق ذاك؛ فأيّ آياتٍ سنشهدها بعدُ حين نُبعث من رحم الأرض التي ضمّت في جوفها آثار شعوب وحملت على ظهرها ملايين قلوب؟

اللهم أكرم الكريمة كما أكرمتنا واجعل لها نوراً واجمعنا في جنات النعيم، رحم الله من مرّت على الحياة سنا، رحم الله من كانت للقلب منى.
سلام الله عليكِ ورحمته وبركاته.. سلام الله عليكِ ما غازلت الأيّام الليالي وما امتدّت أشعةُ الشمس وما تباهى بلمعته ألقُ القمر.. سلامه عدد ما دعونا لكِ وبكينا عليكِ، وعدد ما دمعت ابنةٌ لم تزفيّها بعد، وعدد ما ستحكى عنكِ الحفيدة للأحفاد وعدد ما ستحكي الصوَر عن نسمةٍ مرّت على الدنيا ببسمةٍ هنيّةٍ لها حُسنٌ رضيٌّ تغار من لطفه البسمات.

الثلاثاء الحزين 4-1-2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *