إدراك

يمرّ يوم الميلاد مرور الكرام على من يُدرك أنّ الوصول إلى الدنيا هبةٌ ربّانيةٌ من ربّ الأرباب عظيمةٌ وليس انجازاً شخصيّاً أو أسطورياً لا للوالدة ولا للمولود.

لماذا رُزِقنا الحياة؟
أتظنّ بأنانيةٍ أنّ حياتك ملكٌ شخصيٌّ خالص لك؟
هل تتفهم أنّك قد تكون النّعمة الأعزّ في عُمْر أحدهم في ظلّ انتظارك على مَلَلٍ مولد نعمتك العزيزة؟
هل تدرك أنّ نعمنا في الحياة قد تجهض تارةً ولكنّها تتوالد تاراتٍ ما بين ولادةٍ مبكّرةٍ أو متأخّرةٍ طبيعيّة كانت أو قيصريّة؟
البعض يخاف.. والخوف حقٌّ نُبتلى به، والبعض فطنٌ لا يطيق الاستسلام لوهم الانتظار، ولا يحتملُ تحمّل أوهام الاحتمالات، فيصنع قدره بنفسه بدلاً من أن يصنعه له أحد ولمثله ترفع القبّعات وتصفّق الجماهير.

إلى أين نمضي؟
ما هذا السؤال!
بالتأكيد إلى الله، إلى رضاه، إلى الجنّة، وإلى الخلود.
كيف؟ لا يسعى الجميع للظهور، نقطة انتهى.
قد يكون حارس العمارة المستور ذو حظٍ عند العليم عظيم أكثر من فلان وعلاّن من مشاهير الشبكات الافتراضيّة المؤقّتين وذاك أمرٌ واضحٌ بديهيٌّ مفروغٌ منه لا يختلف عليه اثنان؛ مقدار ظهور أحدهم نحن من نقرّره، نُشَيْطِنُ مَنْ نُشَيْطِنُ بإرادتنا ونُمَلْكِنُ مَنْ نُمَلْكِنُ مثل ذلك، ويُهدَرُ العمرُ بالبشر تصنيفاً للبشر ما بين ملائكةٍ وشياطين.
والمحصلّة أننا نحن بأنفسنا من نصنع العظماء ليس باللاوعي وإنّما باليقين بأن لا بدّ لنا ولهم من حصاد ثمار غراس الإخلاص يوماً، بتحيّتهم، بمساعدتهم ما اقتنعنا واستطعنا، بالدعاء لهم والإشارة إليهم، وبإحياء همَمِ المعنيين بقضيّتهم.

هل يستحق الجميع امتلاك أقلامٍ كي نغرق في هذا الطوفان الكتابيّ المصدّع للرؤوس؟ نعم.. الكتابة حقٌ مشروع لكلّ كاتبٍ بلا شكّ، ولكنّ قراءة المكتوب هي التاج الأخّاذ الذي لا يستحقّه أيّ عشوائيٍّ منهم.
كم سنستغرق من الزمن كي ننسى ذلك الكاتب عدد الدقائق والساعات بعدما يموت؟
الإجابة عرفناها مُذْ سبقه بالموت كُثُرْ؛ الحقيقة المرّة التي نتجنّب التفكير بها أن الكُتّاب الحقيقيّين تحيا كلماتهم بعد موتهم والغالبية العظمى تموت حروفهم معهم بمجرّد الموت كفقاعة صابونٍ أبهرت العابرين ولمعت لثوانٍ عابرةٍ مثلهم تماماً ثم اختفت بلمح البصر غير تاركةٍ أيّ أثر.
من يصدّق أنّنا نحيا في زمنٍ صار الجميع فيه يحسب أنّه أسطورة؟ يبدو مثيراً للسخرية هوس استعراض الصّور الشخصيّة هذا للدرجة التي سلبت أصحاب المقام الوقار وأنستهم الغاية السامية المرجوّة منهم وطبيعة المحتوى والهدف المرجوّ تقديمه لتقدّم الأمة ونهضتها وقيامها من بعد قعود.

أسئلةٌ كثيرةٌ على عتبة عامٍ جديد، رغبةٌ بقول أنّ كلّ يومٍ وكلّ ليلة وكل نَعم وكلّ لا هي لحظة ميلادٍ للإنسان المتوازن العاقل السويّ الحكيم. لا يكفي أن تقول لمن تحبّ: كل عام وأنت بخير أيّاً كانت المناسبة، عليك أن تقول: كلّ خاطرة وأنت بخير.. كل وعي وكل نضج وكلّ صبر وكلّ امتحان وكلّ انتاج وكلّ أمل وكلّ عمل وكلّ ثبات وكلّ ضحكة وكلّ صداقة وكلّ عافية وكلّ حُبّ وأنت بخير.

تلتهم الأعوام الأخيرة بعضها التهاماً ولا تشبع، ما بين الكانونَيْن العمرُ ينقضي، لا يبدأ العام حتى ينتهي، ولا يودّعنا رمضان حتى يعود، ويعود من ثَمّ العيد لنضع الأكفّ على الخدود ونتذكّر من تُعطّر ذكراهم أيامه ولياليه ولا يبرحون نبض الروح وطمأنينة الذاكرة.

على عتبة العام، أريد أن أقول: “جعل الله لهم نوراً”، لكلّ روحٍ غادرتنا إلى هناك، وأن أقول أنّي أدركتُ مع رحيلهم حقيقة معنى أنّ الحياة عقيدةٌ وجهاد، وأدعو الرحمن أن يرافقني هذا الإدراك حتى تُردّ الأمانة التي وهبنيها الوهّابُ إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *