حامض حلو

لم تكن تلك الليلة ليلتي، ولم يكن ذاك الصباح صباح أحدٍ منّا بلا شكّ، بدا وكأنّ العمر غفوةٌ على كتف صبيّةٍ تحت شجرة ليمونٍ مثمرةٍ في بيتٍ عربيٍّ صغيرٍ على طرف المدينة؛ أفتقدك، يخيّل لي أحياناً أنّ ما جرى كان بالأمس، وليس أنّ أياماً طويلةً فصلت بين اليوم وبين ذلك اليوم الذي قصم ظهر القلب والعمر ومستقبل السنين.
كيف سقطت لأوّل مرّة في الحياة وأنت الجواد الذي لم يسبق له السقوط ولو كبوةً؟ كيف سكت قلبك عن النّبض بلمح النّظر وهو الذي لم يسكت عن ضخّ الحبّ مذ خفق الخفقة الأولى إلى أن وصل تلك الخفقة الأخيرة؟ كيف تلوّن بهذه السرعة مبسمٌ يخطف الأنفاس بلونٍ أزرقٍ مائلٍ لكرزيٍّ قاتمٍ بعض الشيء ملوّعٍ وحزين؟ لماذا أغمضت عينيك التي أحبّ إلى الأبد؟ لماذا تغيّر لون الشّامة؟ لماذا لم تستطع أن تردّ عليّ ولو مرّة بعد تلك الإغماضة المفاجئة؟ لماذا.. لماذا؟ لماذا خرس القلم ساعة الصفر وراح حبره ينسكب دمعاً لا يتوقّف سبعة أيّامٍ بلياليها؟ هل يصلك الشوق ليلةً بعد ليلةٍ لآلئ حبٍ مكنوزة على هيئة نبضٍ بالدعاء يزيد؟
كنّا معاً قبل ساعة، ساعةٌ واحدةٌ فقط، ثمّ حلّت إرادة الحيّ القويّ القريب الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وصرنا ذات موتٍ في عالمين مختلفين تماماً.
بكيت بكاءً لم أبك مثله في عمري ولا أظنّني بعده أفعل، نشف الدّمع واختنقت الحنجرة بالألم الذي لم يخطر على بالي الاستعداد له مسبقاً.
كنّا نضحك قبل أيّام، نحكي عن ثلاثين عامٍ سنحياها بحلو الأمل وجميل العمل، نتراشق اللّطف بلا كللٍ وما أحلاه من تراشقٍ بالكلمات، ويعجبنا أن نكحّل عيني ليالينا بكثيرٍ من الجدل رزين.

هل تتذكّر تلك السّهرة الفريدة، أنا أتذكّر..
= ذكّريني.. كم كان عمرك..
_ كم مرّة عليّ إخبارك..

= أعرف.. أعرف.. ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك مرّة بعد مرّة كي أتأكّد..
_ تكبرني بمائة وستّين عامٍ وشهرٍ ويومين..

= بل: إلاّ شهرٍ ويومين..
_ بل: وشهرٍ ويومين..

كيف لحواراتٍ عاديّةٍ جداً ألاّ تنسى؟
كيف تحبّ المرأة الرجل وكيف يحبّها وبمثل ماذا ومتى ولماذا؟
هل نحبّ لطيف الكلام كثيراً أم الشهم من الأفعال أكثر؟ أم أنّ التّوليفة السّحريّة بين كليهما هي مصنع الحبّ العظيم؟
ذاك اهتمامٌ كم كنت أحبّه.. ولا زلت، لا أستطيع أن أنساه، ولا أظنّني أقدر وكأنّي لا أريد.
تحبّ الواحدة فينا أن تشعر بالأمان قبل أي شعور، وأنت كنت ملاذي الدافئ الحاني السليم، وما زلت، وستبقى دهوراً ودهور.

يشتاق النّاس للأحياء عادةً، يبدو الشوق لمن هم معنا هنا منطقياً، نحبّ الاستماع لحكايا اللقاء بعد الفراق ونميل لكتابتها لأنّ لنا حريّة تخيّل فتنتها وجلد انتظار مسك نهايتها.
أشتاق وسيماً يسكن منذ زمنٍ بعيدٍ هناك.. روحٌ حلوةٌ لا تفارق روحي، تبكي معها تحت الوسادة طول ليالي الشتاء، تسهر وتثرثر، تهمس أنّها كانت إلاّ شهرٍ ويومين، فأمسح الدمع وأعترض: بل كانت وشهراً ويومين، تلثم عيناً تبدو مُغمضةً لثمةً طويلةً حانيةً حاميةً وتقول أنّنا يوماً مّا بالتأكيد سنلتقي تحت شجرة الليمون ذاتها ولكن ليس ها هنا وإنما هناك، ثمّ تتمتم بسنا وعدٍ: انتظريني هُنا أيضاً.. فهنا سنلتقي حتماً.. أو قَد!
ربّما ذات غفوةٍ عابرةٍ أو جميلِ حلمٍ أو طويل منام.

==========

وما فارقتني طوعاً ولكنْ
دَهاكَ منَ المَنيّة ِ ما دَهَاكَا
لقد حكمتْ بفرقتنا الليالي
ولم يكُ عن رضايَ ولا رضاكا
فلَيتَكَ لوْ بَقيتَ لضُعْفِ حالي
وكانَ الناسُ كلهمُ فداكا
يعزّ عليّ حينَ أديرُ عيني
أفتشُ في مكانكَ لا أراكا

بهاءالدين زهير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *