العم فيتاليس

لنتذكَر معاً، كم مرّة أُرهقت أنفاسك تفكيراً وتدبيراً لحلٍّ سحريٍّ يخلّصك من حالك مع أحدهم ينخر الضمير وتشهده الملائكة؟
كيف لا تحمل وشماً وتشوهاً نفسياً ضد سكّان الكون وسوء ظنٍ بهم وخوفاً منهم، ونفسك اللّوامة تجلدك ما استطاعت أن كنت أعمىً تُدرك ولا تتدارك الخطأ أسرع من ذلك، كيف لا تتألّم وتشكّ بقدراتك، والله يرسل لك الرسائل تتراً، كلها تدفعك للثبات كألف ألف جبل أحد، كي لا تتصدّع ولا تنهار، هل تحتاج بعد هذا الاستقلال الذَاتيّ الهائل لسندٍ حقاً؟
أسرّك سراً قوياّ ثالثاً على الملأ هنا، أنا لا أشعل الشموع، ولا أسهر على الأغاني، لا وقت للرقص، ولا حاجة للبس الخلاخيل ولا لوضع المناكير، ماسكارةٌ للرموش وكعبٌ عالٍ وتنورةٌ قصيرةٌ وتأمّلاتٌ سخيفةٌ على المرآة ووقفاتٌ طويلةٌ بالمطبخ ضربٌ من ضروب الخيال بالنسبة لي صراحةً، فأنا أمٌ عاملةٌ منذ أعوام، ترتدي على الدوم سريعاً جينزاً كُحليّاً وحذاءً رياضياً وتربط شعرها ذيل حصان، وتركض بأقصى سرعةٍ كلّ صباحٍ بغية الارتطام بالأقدار.
يبدو مضحكاً جداً، مضحكاً للغاية، مضحكاً حدّ القهقهة تخيّل حالي على غير ذلك، حدّ ثمالة الضحك إن كان له ثمالة، وينطبق ذلك على كثيراتٍ ممن تملكن نفس وضعي الحاليّ في الحياة، لستُ استثناءً، لديّ أربعين شبيهةٌ على الأقلّ كسائر البشر بالتأكيد.
ربّما لو جربت هوايات الإناث الآن لن أعرفني أبداً، أبداً.
يبدو ذلك من زمنٍ أغبرٍ جداً ولّى دون رجعةٍ، غير مأسوفٍ عليه، دون أدنى حنينٍ إليه، ربّما في داخلي الآن ذكرياتٌ تكره أن تعتني بتفاصيل تلك الأنثى أيضاً دون تفصيل يُذكر.
أشعر أنّ لوجودك الوهميّ في حياتي حكمةٌ بليغة، فأنا التي ضربت بوجود الرجل في حياتي عرض الحائط ذات عام، ناهرةً زيف حبّه قائلةً بحزمٍ: لا أريدك، يضرب العشق على روحي بعزمٍ بعد عدّة أعوام، بشوقٍ يشقّ القلب شقاً يدفعني لتقبّل بدايةٍ جديدة.
نفس الحبّ الذي لا نريده نخاف رحيله، على مرأىً من عينينا نُبتلى في صبرنا راضين تمام الرّضا بلاءً بعد بلاء ،حباً بعد حب، وعلاقةً بعد علاقة، ودعاءً بعد دعاء، كثيراً ما يُمتحن إيمان قلوبنا بالألم، أنصبر أم نكفر، ولكم تمنّيت أن أكون عبداً شكوراً.
مليار كلمةٍ لن تعبّر عمّا يجول في خاطري الآن، كلّ الذي أعرفه أنّ رسائلنا الحاليّة كُتبت فورةً لتفريغ شيء غاضبٍ من أمٍ كانت على وشك أن تجنّ لثقل المسؤوليات المتزامنة مع بحثها الحثيث عن رسالتها في الحياة، فكانت بلسماً لتنظيف جرحٍ أنتنَ ولا بدَّ من تعقيمه وإغلاقه ليوم الدّين.
أصدقك القول، أنا لا أظنّ أبداً أنّي أحبك الحبّ الذي ترغب، رغم أنّي أخشى جداً ذلك، خشيةً تدفعني للهروب بعيداً عن الكتابة إليك والردّ عليك بين فترةٍ وأُخرى.
أنا أحبُّ اهتمامك، ولطفك، رحمتك وإيمانك وتشجيعك، وأُنصت لك بقلبي قبل أذني، وأقدّر حروفك مكتوبةً ومسموعةً كلمةً بكلمةٍ وحرفاً بحرف، أقولها بهذا الوضوح التام وبهذه الصراحة المطلقة قبل أن أنام والله خير الشاهدين.
أنا فقط أرتاح إليك راحةً لم أعرفها في عمري إلا مع أهل رحمي ومن أتّصل بهم قربة دمي، راحةً عكّرت نقائها وصفوها يوم لم تقل: نادني بالعمّ زبرجد من اليوم فصاعداً يا بلسم الرّوح، كنت ستكون العمّ الأجمل في الكون، العمّ السحريّ، عمّ تحقيق الأمنيات وسرد الأحلام وقصّ الحكايا والرّوايات، العمّ الذي لا أخشى محادثته بالساعات، ولا أترددّ بالكتابة له عدد الصلوات.
عمٌّ جميل، جميل جداً، عمٌّ يشبه أبي، وأحبّه كما نحبُّ الأعمام، ومن يمنعنا عن أعمامنا، بالله عليك قل؟
عمٌّ أبشّره بالأخبار وأحكي له الأسرار، وأزوره في مكتبه بعد عامٍ ونصف عام، حاملةً روايتي الأولى موقّعةً بشيء يشبه التوقيع على استحياء، أكتب له على غلافها أوّل إهداءٍ وأقولُ: أنت ساعدتني أن أصنع نفسي يوماً مّا، وأنت شققت لي الطريق قائلاً: كوني شجاعةً وحطّمي بوتقتك، ثقي بنفسك كما أثق بنفسي، ولا تخشي بعد اليوم شيئاً ما دمت حيّاً.
لو أنّك العمّ الرّصين، لكنت حال الزيارة أقبّل الرأس واليمين احتراما وامتناناً ودعاءً وأرحل، لكنّك لم تبادر بالإفراج عن ذاك اللّقب الجميل، ولم تقل: قوليه، وأقمت جدار الأنثى والذّكر بيننا فأربكتني أنت ابتداءً، وليست أنا من فعلت.
لو أنّي خُيّرت بين حبّ الزبرجد أباً أو رجلاً لاخترت الأب بدون تفكير مرّتين لعظم فقدي لوالدي، ولا عملاق يعوّض فقده ولا أحد يسدّ الفراغات في الروح بعده، لكنّ لي عندك حاجةً أن تُعينني على دفن الأنثى الطفلة داخلي قبل أن أبلغ أشدّي، أنا أحاول جاهدةً ما استطعت أن أبدو رزينةَ عدد سنين عمري ولا أقدر، تلك الطفلةُ من طفولتي لا تفارقني، تخجلني كثيراً ولا أظنني بحاجتها في حياتي القادمة من بعد اليوم.
أظن أن وأدها يرمّم هذا العوج الغريب في شخصيتي في التعامل مع موت من أحبهم، يجب علينا أن نتقبّله، علينا ذلك شئنا أم أبينا، لا بدّ لنا من تجاوزه، كفانا اهداراً لدقائق العمر وقوفاً على أطلاله وتباكياً على رُحّاله.
أنا، ممتنةٌ جداً لهذا الوقت العزيز تقرأٌ فيه رسائلي بجَلَدٍ كثيرٍ وبعضٍ من ملل، أقول لك “شكراً” للمرة الألف وأعرف أنك سئمت، أشكر هذا الاهتمام وأعرف أنك ندمت، وأدعو الدعاء خالصاً من قلبي عرفاناً على هذا التحمّل الجميل والحِلم الأجمل، ولكلّ شيء، كلّ شيءٍ كان أو سيكون يا زبرجد.
ماذا أقول يا بلسم الرّوح، أتأمل ملامح كفيّ أثناء الطباعة هذه الأيام حتى تدمع عيناي دمعةً باسمةً متذكّرةً كلماتك، أجل أعني ما أقول، بعض الدموع تبتسم، الشعور بالاهتمام كان دافئاً جداً، ومنعشاً جداً، في وسط الزحام، في صخب الحياة.
لو أنك العمّ يا زبرجد، لقلت بأني افتقدتك كثيراً بالأمس واليوم وكلّ يوم، ولقلتُ بأنّي أشتاق جداً سماع صوتك، وأشعر بالإنجاز حال قدرتي على إضحاكك بين هموم عملك وأثناء ركضك في دروب رسالتك.
لو أنّك عمّي، لصرتَ العمَّ الذّي لا أخجلُ صباحاً أن أقول له طمئنني عن قلبك، إروِ لي سيرة حياتك كاملةً من أوّلها، أنا لا أعرفها، روّح عن نفسك بالفضفضة، بالكلام حتى يطمئنّ قلبك، دعني أحمل عنك شيئاً من ضغطك، قاسمني همّ عملك، ربما أُشرق لك بفكرةٍ أخّاذة، من يدري؟ أَولَيس الرحمن استودع أسراره أضعف خلقه.
ماذا لو أنّي لا أنسى أنّك أسررتها لي مرّتين: ربّما تتفهم الأنثى الذّكر أكثر من تفهّم عموم الأصدقاء للأصدقاء ذكراً لذكرٍ وأنثى لأنثى؛ والعكس صحيح.
أتفهّم ذلك كثيراً وأحترمه وأرتاح إليه، لا أحبّ أنّي أنسى نفسي فأضحك ملئ قلبي معك، وأحبّ أنّي أرتاح إليك، أحبّ الطمأنينة والسّلام والإلهام الدفّاق الذي أغلق به حواراتنا كلّما كانت، طالما أُدرك أنّها صيغت مُهذبةً وصينت حدودها وقيودها.
ماذا لو تمضي وأمضي في الحياة يتكئ عَرَجُ حظّي على كسر قلبك؟
كم تمنيت هذا الصباح العطر مرّةً بعدَ مرّةٍ ألف مرّة أن أتّصل بك لنتجاذب أطراف الحنين معاً، لكنّني خفت! خفت؟! لا أعرف ممّ؟
خفت منك غاضباً منّي لأنّي كلّ فترةٍ أختفي عن ساحتك وأبتعد دون سبق انذار، وخفت عليك مختنقاً بالذكريات تملؤ سطور كلماتك بألمٍ تنفّستها بقراءتها وتمنيتُ أن أرسل الرّوح جوارك لتمسح على روحك السلام.
وربّما كان الخوف الأكبر أنّي خفت من نفسي! لأني لا أفهمني لماذا لا أفهمك حتى الآن، وأنا أعلم علم اليقين أنك على طهرٍ لا مبرّر لي أن أخشى شيئاً بعده، لكنها العُقد مما مضى يا زبرجد الشّرق، العقدة من الذّكر يسرق القلب بالبسمةِ في البداية، ويضربُ بالكفّ المسعور ضرباً مبرحاً بكلّ عنفٍ في النهاية.
لأجل قلبي المجنون كن بخير دائماً وأبداً، كن بألف خير، عدد الكلمات المطبوعة، و عدد امتناني للرحمن، عدد الدعاء لك ولبيتك وأهله المحظوظين بك فرداً فرداً، أغبطهم من قلبي وأدعو أن يبارك الله لهم فيك وبك، صحةً وإنجازاً وتوفيقاً ووصولاً وراحةَ بالٍ وسلطةً وعافيةً وسعادةً ومن كلّ ما شئت زيادة.
كن بخير، أيها الزّبرجد النبيل، نعمةً من نعم الرحمن، لا أعرف كيف اصطدمت بها فصدمتها بالعقل الصغير لا أعرف متى يكبر، وأدرك أنه هذه الأيام يأخذ بالأسباب بهدوءٍ ويفعل.
أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، صديقةً مصابةً بعمى الأعمار! تراك بين سطورك على صورتك بعنفوان شبابك في عمر الثلاثين! تسمع صوتك على هيئة وقارك في عمر الخمسين، وتشاهدك على الشاشاتِ رحمةً للعالمين.
أفتقدك كثيراً، وأشتاق إليك أكثر، ولغرورك الحقّ كلّ الحقّ هذه المرّة في أن تبتسم ابتسامتك العريضة التي أحبّها لمثل هذا الاعتراف والانجراف منك إليك.
انتظر منّي مكالمةً طويلةً هنيئةً قريباً، ليست مكالمة دقيقتين على عجلٍ والسلام؛ مع كل الحب، بطهر الحب، بقداسة الحب وأبدية الحب، تصبح على خير، كل خير، أراك على خير، ودمت لي ولكلّ من يحبّك بخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *