سكوت

سلامٌ معطّر بالياسمين، بالياسمين فقط هذه الليلة، لا عبق الفلّ ولا عبير الجوري ولا شذى الرّياحين.
ولماذا هذا التّعصّب للياسمين؟
القصّة أطول من أن يسعها حِلمك، ياسمين يعني ياسمين، ما المانع؟
لا مانع، أردت استفزاز حرف الياسمين، يبدو غاضباً اليوم، ما باله؟
لا أدري، مخّي يكاد ينفجر لكثرة الخواطر، في الحقيقة، أنا غاضبةٌ منك كثيراً، كما لم أغضب من قبل.
غاضبةٌ منّي أنا! «شو عدى ما بدى»؟، ماذا فعلت يا هاته؟ هل يغضب المرء من سرابٍ غير موجود إلا في مخيّلته؟
قل ما شئت، صِفني بمَثَل الشّام الشّهير: «عقلها جوزتين بخرج»، سأفاجئك بأنهما لم تكونا جوزتين، ولا حتى جوزةً واحدة، أنا أملك نصف جوزة أو ربعاً بالكثير على الأرجح.
لماذا لم تحضر اليوم؟
لماذا لم تطرق الباب فجأة؟
أما وصلت إلى دارك رائحة الطبخ تنبعث من داري بين صلاتي العصر والمغرب، أما ضربت نكهة الفانيلاّ الأخّاذة على مُخيخك ضرباً مبرحاً؟ أما اشتهيت ولا للحظة أن تتذوّق كيف يبدو طعم الكعك أخبزه وطعام الوليمة أطهوه على مهل؟
أنت أنانيّ جداً، تعرف أنّي لن أهنأ باللقمة معهم وكرسيّك فارغ، هل كانت ستنقص هيبتك لو أنّك حضرت هذه المرّة؟ لو أنّك طرقت الباب، وقلت من شراب الحبّ يا محسنين؟
تباً للغرور، وألف شوقٍ وشوقٍ للمغرور.
نعم، أنا غاضبة جداً، لأني كنت أسمع المديح ولا أريد مدحاً إلا منك، وأسمع الدعوات وأحنّ لدعوةٍ واحدةٍ أيضاً منك، أحبّهم، أحبّهم كثيراً، أحبّهم ملئ الكون وأكثر، بيد أنّ لهم حبّهم ولك ألف حبٍّ وحبّ.
أراك في التفاصيل، نحن قومٌ نقسم القطعة الأكبر من الكعكة للسيّد، ونغرف الطبق الأوّل للسلطان، هكذا ربّتنا الحنونة، وأنا للعام السادس على التوالي، أستقبل رمضان بلا هذا السلطان.
قد يبدو الأمر عادياً عند الكثيرين، لكنّي لا أراه كذلك، إنّه قانون الطاقة الكوني، كنّا صغاراً جداً عندما شرحت لنا معلّمة الفيزياء أنّ الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولا تنعدم ولكن يمكن تحويلها من شكل لآخر، وأنا أرى أنّ هذا الحبّ العارم غير المنطقي لشخصٍ لا وجود له إلاّ في ربع الجوزة خاصّتي لم يستحدث من العدم، ولا بدّ أنّ وراءه أمراً أكبر من كلّ الأحلام التي نسجتها والدّعوات التي دعوتها والضّحكات الرنّانة التي اهتزّت لها شبابيك الجيران حين قالت لي صديقتي: سأمشي إلى جامع الحيّ حافيةً سبع مرّاتٍ ذهاب إياب إن ظهر مثل هذا الزّبرجد في الكون يا صديقة، بل إنني قد أتقاسمه معك لأنّه بالتأكيد سيكون طفرةً جينيّةً مع هذا الكمّ الهائل من الأحلام الوردية تجمّلينه بها، أريد أن أحوّل هذا الحبّ لكلمات يخلّدها الزّمان للأحباب سواءً لقيتك أو لم ألقاك، كنت أتمنى لسنوات أن أكمل عمري معك، لكنّني الآن لا أرغب إلا بلمحةٍ واحدةٍ خاطفةٍ أتأكّد فيها أنّ الدعاء قد يتجسّد إنساناً أحياناً.
غاضبةٌ أنا؟ نعم، وأكثر مما تتخيّل، عدد ما ضحك الزائرون ووصفوا كعكة الشوكولا التي أعددتها بأنها لم تكن كعكةً عاديّة، لأنّ الأطفال سكروا بالحلال منها، كان جميلاً جداً رؤية كريمتها ذائبةً حول شفاههم وعلى خدودهم وأصابعهم الصّغيرة، على مفرش الطاولة وأرضيّة الصّالة، تحوّل بيتي لجنّة شوكولا كما حلمت دائماً، قالت أمهاتهم أنّها كعكةٌ يُسبح بها لا يؤكل منها أكلاً عابراً، فاتك الكثير الليلة، كما يفوتك كلّ ليلة.
هل تذكر قارورة عطري الورديّة الثمينة يا زبرجد؟ سبق أن حدّثتك عنها، وعن احباطي يوم تعطّرت بها دون أن تفتحها لي وتعطّرني منها للمرّة الأولى، لقد أوشك العام على الرحيل، واقترب العيد ثانيةً بل سادسةً، والقارورة على انتهاء، وأنت ما حضرت حضوراً ولا مررت مروراً ولا حتّى وعدت وعداً أن تعود وأن تجود وأن تعطّرني من عطرك على طريقتك ولا حاجة لنا بعدها لأيّ قارورة، نعم أنا مستاءةٌ وكلّي لوعةٌ، ولكنّ مثلي من يُذاع لها سرُّ!
هل تعرف ما يشبه حبّي لك؟
يشبه صوت كأس الماء الفاتر تضربه على طاولة المطبخ لأنّك لم ترتوِ منه ولم تدرِ لماذا، يشبه نقر أصابع عازف البيانو لا أحد يفهم السرّ بين لغة جسده وبين القشعريرة تسري إلينا بسماع معزوفته، وكأنّ كيمياءً مّا تتفاعلُ محدثةً كهرباءً موسيقيةً مذهلةً في أجسادنا.
ماذا أقول، إنّه حبٌ مزعج، مزعجٌ جدّا، أحاول نفضه، كأمٍ تنشر الغسيل على الحبل تحت الشّمس، تنفض مفرش السرير الأبيض النفضة الأولى فتعانق رائحة صابون الغار رحيق الأزهار، تنفضه الثانية بقوّة أكثر، فيمدّ من النافذة عينيه سابع جار، تنفضه الثالثة: فينطق المفرش على غير ميعاد: أعيديني إلى السرير لقد جففت قبل أن أجفّ، لقد كان نفضك قويّا يا هذه. وأنت يا أيّها الأخضر ما من شيء ينفضك وما من شيء ينطقك.
هل أنهيت ثرثرتكِ بلسم خانم؟
هل أراحك بعض الشيء أن صببت لجام غضبك عليّ؟ وأنا كما تقولون: «اللي فيني مكفّيني».
لا لم أنهِ ولا واحد على ألف منها !
أنا أريد أن أحكي لك كلّ الأشياء الجميلة التي تراها عيني وأفكّر بها، أريد أن تعلّمني كثيراً، أريد أن أصف شعوري حين أقود سيّارتي وتتقافز أمام بؤبؤ عينيّ الكلمات لأكتبها ولا مجال إلا للتسجيل الصوتي لما خطر على بالي لحظتها لأني أكون قد دخلت في الخطّ السريع ولا مجال للتوقف وتدوين أي شيء، رغم أنّي كثيراً ما أقف للتصوير، وأكثر من ذلك أحصل على الغرامات، أنا فعلياً أشارك في مصاريف الدولة وأتحمّل معها بعض العبء الاقتصادي وأشارك بنهضة البلاد مادّياً عن طريق المحافظة على عدد مخالفات السير التي أجمعها شهرياً، أسرح كثيراً أثناء ذهابي للعمل، الاسبوع الماضي لم استيقظ من السرحان إلا على صوت ارتطام سيارة خلف سيّارتي عند الإشارة، الحمد لله هذه المرّة كنت بريئة ونجوت بأعجوبة، أمّا عن ملامح أخي حين وصفت له الحادث، أترك لخيالك الواسع تخّيل أيّ نظرات حظيت بها.
سينتهي بي الحال للعودة لسيارات الأجرة قريباً ما لم أركّز قليلاً، لا أظنّ أنّ ذلك يحدث إلا إن أشرقت في عمري وقلت للقمر قولتنا الأشهر: «قوم لأقعد مطرحك، قاضي ومفتي ورقيب»، أوه يا زبرجد، «بيلبقلك، والله بيلبقلك».
أنا أحبّ الناس يا زبرجد، أحبّ أن أبتسم لهم، أحبّ رؤية عيونهم وبسماتهم، أحبّ قراءة سير حيواتهم من على صفحات وجوههم وتجاعيد جلودهم، أحبّ ضحكات الأطفال، أحببت طفلةً اليوم كانت تُخرج بذراعها الكمامة الزرقاء من شبّاك السيّارة وتلوّح بها وكأنها علم البلاد لهذا الزّمان، وأحببت الجدّ العجوز بظهره المنحني وعكّازه الخشبيّ يرفع يمينه ويسلّم عليّ لأنّي انتظرته خمسة دقائق كاملة بسيارتي حتّى يعبر الطريق لأعبر، مثل هذا الجدّ لا أستطيع إلا أن أمنحه أطيب بسماتي.
اليوم، التقطت صوراً كثيرة، صوّرت جداراَ يريد أن ينقضّ كقلبي، وصوّرت شجرةً صغيرةً زُرعت في حوضٍ ضاق على جذورها فحطّمته وجعلت فيه شرخاً كبيراً حتّى تطول وتكبر، وصوّرت فُلّة أخي تُزهر، ومحصول البطاطا لأمّي تعد الأحفاد أنها ستعدّ لهم منها طبقاً شهيّا، صوّرت الطفل النّائم في الجامع، والسيّارة الفارهة التي عطّلت سير النّاس ظننّا أنها صدمت أحدهم ودعونا: اللهم سلّم، ليعود قائدها حاملاً حمامةً مكسورة الطّرف كاد أن يدهسها فتوقّف لها وأوقف عشر سيّاراتٍ بعده احساناً لحمامة، تبسّمت كثيراً، إنّه زبرجديّ القلب بلا شكّ.
الشيء بالشيء يذكر، على ذكر حمامة الأيك التي أحبّها وأخالها أنا، وعلى سيرة الحيوانات، أريد أن أخبرك أنّي أحبّ القطط كثيراً، وأنّ والدتي لا تحبّها أبداً، وأنّ من أمنياتي امتلاك واحدة، وأن أكبر كوابيس أمي في الحياة كلمة قطّة، وأن تلك القطة لو تصل إلى ذراعيّ لانتهت الكلمات إليك تماماً، ولاستطعت أخيراً التواصل مع روحٍ في الدنيا بسرّية خاصّة لا علاقة لأحدٍ في الكون بها، أنا والقطّة ولا ثالث بيننا.
الأمّهات كائنات خطيرة يا زبرجد، أخطر مما يخيّل لك أنك تعرف، لقد عشت عمراً مثلها لا أحب القطط وأخاف منهم حدّ الرعب، إلى أن حدث منذ عدّة أشهر أن وقعت في غرام هريرةٍ من أوّل نظرة وسمّيتها فوراً، من حسن حظّي أنّها بادلتني نفس الشّعور، كانت أشجع منك، كان الإحساس لحظة قفزها إلى حضني جميلاً جداً، أحدهم لم يكتف بالتقاط صورة لذلك، بل صوّر المشهد مرئياً كاملاً، ليس لسواد عينيّ بالتأكيد وإن لم تكن سوداء، ولا لتوثيق الذّكرى، إنّما لتهديدي بأنّه سيريه لوالدتي، ويا ليته ما أراها إيّاه، لن أشرح، كلّ ما تتخيّل الآن أنّي سمعته منها فقد سمعته وأكثر بكثير، لا أعرف لماذا تبدو لهم عاقّاً وشريراً إذا أحببت ما لا يحبّه أقرب النّاس إليك.
أنا تعوّدت هذا الشّعور، هل أشرح لك هذه الجزئيّة فيما يخصّ علاقتي بك، أم أتزيّن بسكوتي؟
ستر الله عليّ وعليك وعلينا جميعاً وأجارك طولة اللّسان وفصاحة البيان، كن بخيرٍ كلّ خير، سلطان الزّمان.
===
الخرج: كيسٌ كبير يوضع على الأكتاف توضع بداخله الأشياء الكبيرة والصغيرة معاً كي يسهّل الحمل في قديم الزّمان.
ورد في لسان العرب: وَالْخُرْجُ: مِنَ الْأَوْعِيَةِ، مَعْرُوفٌ، عَرَبِيٌّ.
والمثل معناه: عقل هذا الشخص صغيرٌ جداً كحبّتي جوز داخل كيسٍ كبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *