شقائق النعمان

يا ساعي البريد..
أي القلوب تملك؟
أخبرني..
هل كان كلّ السُّعاة على مرّ الزّمان مثلك؟
كيف تحتمل حمل كلّ هذا الشَّعر على كتفيك؟
وكيف تتحمّل مثل هذا الصبر بين يديك؟
هل تقرأ رسائلنا بصمتٍ وتترجم ما بين سطورها وتنتظر معنا الردود؟
تحلمُ بالمكتوب قبل أن يُكتب وبالمنطوقِ قبل أن يُنطق.
يا ساعي البريد..
هلّا أوصلت لي رسالة؟

أريدك أن تخبر أحدهم أنّ النصّ الأخّاذ ساحرةٌ شرّيرةٌ تضرب سحرها على قلبك، تأخذك إلى البعيد، تحلّق بك إلى ذلك المستحيل الذي لم يصل إليه يوماً أحد.
أريدك أن تهديه السلام كلّ السلام، أن تخبره أنّي عثرت عليه وتعثّرت به بالصّدفة في توقيتٍ عجيب، أنّي سكنت بين كَتِفَيْ نصّه كما لم أسكن إلى نصٍّ منذ سنين؛ أن يصدّق تماماً ما تراهُ عيناه الآن، أن يتأكّد أنّي بتُّ أعرفه افتراضياً بعض الشيء ممّا يكتبه، أعرف العينين حتّى وإن لم يعرف، وأعنيه كما لم أعني أحداً منذ آذار؛ أنّ ذلك النّص أصاب قلبي في مقتل، وأنّني على موعدٍ مع كاتبه يوماً ما.
سأزور مدينته، سأستأذنُ من عمره ساعة، سأدفع له ثمنها مُقدّماً بالأخضر، سأناوله مفتاح السيارة، وسأطلب منه التوجّه بنا إلى ذلك المرقد البعيد.
أريد أن أكشف له الحُجُبَ عن حُبٍ ليس كأي حُب، حبٌ يتباهى بمثله الحُب، أريدُ أن يكتب لنا نصاً جديد، أن يرى كيف تجلس صّبيةٌ سمراء بكماء على حافّة قبرٍ مُغطىً بالقرنفل البرتقالي الحزين، أريد أن يرى كيف ستتحدّث إلى نائمٍ تحت التراب بلغة الإشارة وتبكي عليه، كيف سيجنّ وتُجن، كيف سيبكي معها، وستبكي معهما الفراشات والطّيور ولن تستطيع اسكاتهما أشجار المقبرة.
أريد أن أقول له سراً أنّها حفيدة العم صابر الرّوحيّة، وأنّ الحبّ لم يكن اختراعاً، بل إنّ الحبّ لعنةٌ عطريّةٌ أبديّةٌ تخطف قلوب العاشقين وتتخطّف أنفاسهم، وهنيئاً لمن خُطِفَ قلبه من بين جناحيه فلم يُرْجَع من بعد تلكم الخطيفة إليه.
أريد أن أقول أنّ هذه الحياة غريبة جداً، تتأمّل ملامح أحدهم خلف الشاشات، نفس القلق، ونفس الخوف، نفس الحيرة والتّردّد، ونفسُ المثابرة والتّحدّي والشّجاعة، نفسُ الهرّة، نفسُ الرُّوح، نفسُ الشاي، ونفسُ النَّفَس، نفسُ الرضا والبساطة والموسيقى، نفسُ المزاج، نفسُ الهوايات، نفسُ الرسوم المتحركة المفضّلة، نفسُ الذكريات والهموم والطموح، ونفسُ الصُّور والفلسفة والحنين؛ ونفسي أنا!
توأم روحٍ في مكانٍ آخر من هذا الكون الشاسع الفسيح لا تستطيع أن تتواصل معه إلا من خلال الكلمات الحذرة وساعي البريد الأمين وثرثرة الشمس مع القمر وألحان القيثارة الفاتنة إلى نصٍّ لا بدّ أنّه آت، وللنّصوص حكايات لا تعرفها إلا شقائق الرّوح والحبّ والنعمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *