ماء الزهر

كم تمنّيتُ أن يعيش بصحّةٍ عمراً بالصالحات طويل، لديّ كمٌ هائلٌ من الأسئلة لم أسأله إيّاها بعد، كنت أستغرب أنّه حال المرض يُنادي الجدّة! هذا النداء لا أنساه، حيٌّ يُرزق ينادي ميّتاً: «يا أمّي، يا أمّي».
دار الزمان، وها أنذا أكرّر ما كان يفعل، أناديه عبر كلماتٍ يقرؤها النّاس ولا يقرؤها، صحيحةً معافاة ولله الحمد والمنّة، أقول له أنّ طول حفيده الأوّل يقتربُ من طولي ولا أعرف هل أفرح أم أخاف.
كيف حالك؟ هل تفتقدنا وتنتظر لقائنا كما نفعل؟
هل خطر على بالك يوماً أنّ الأحبّة ترثيك رثاءً يَبكيه الرثاء؟
أتعبنا المسير، كدنا نستوفي، اقترب الرحيل، نحن على موعدٍ لا بدّ أنّهُ آت مع الأجل، كلّ الكون حولنا يُسبّح ويُذكّر: “اقتربت الساعة وانشقّ القمر”.

يتغشّى أيّامنا هدوءٌ لا يشوبهُ حسٌّ لا يشبهه هدوء، تغصُّ سُحب السماء بالدمع الغزير لا ينهمر، تحترق على الغصون أوراق الشجر، الدنيا بأسرها تقول لنا: “سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار”.

لم يكن رحيلاً استثنائياً، الناس تعتاد الفقد بسرعةٍ مذهلة، تستمرّ الحياة دون أن تكتب لهم جديداً، تمضي من بعدك دونك وإن لم يقرؤا لك فكرةً أو شعراً أو رأياً، أو تشاركهم صورةً أو ذكرى، أو حتّى طرفةً مطلع الفجر الجميل.

كم نتمنّى أن لا يكون موتنا عادياً، نريده فخماً يعطّر السماوات السبع برائحة صابون الغار، يحكى لأهل الأرض قبل أرض السماء أنّ الحياة جميلةٌ قصيرةٌ لا سرّ يخلّد ذكرنا فيها مثل أن نكون حاملي مسكٍ ناشري سلام، مسلمٌ سليمٌ للقلوب حبيب، كريمٌ نبيل، طبيبٌ طيّبٌ هيّنٌ ليّنٌ خفيفٌ الظّل لطيفٌ ظريف.

مع كلّ وداعٍ نشتاق للجنّة أكثر فأكثر، مع كلّ موتٍ نصحو صحوةً جديدة ونتساءل، متى يحين دورنا؟ متى نكتب رسالتنا الأخيرة؟ هل نرحل ونترك في الكون رسالةً عظيمة؟

الذّهول الذي يعترينا أيّام الوفاة الأولى ينبغي أن لا يُنسى، الألم الذي يعصر أرواحنا يقربنا من الله ولا أهنأ من قربه، قربٌ يكلّفنا إدراكاً لقدسية استثمار العمر الذي لا نعرف تاريخ كماله.

يحدّثني الطفل منذ أيّام، ماما: أريد أن أكبر وأصبح شرطياً، عسكرياً أو جندياً، أسأله: لماذا؟ يقول: أريد أن أموت شهيداً..
لا أعرف بعد ما مفهوم الشهادة في نظر ابن الحادية عشر، أقول له: لست بحاجة أن تكون أحدهم ليُختم لك بها. يسأل: كيف؟ أقول: ربّما وُلدت مُهاجراً لتموت كذلك يا ولدي، قلتها مدركةً عمق معنى الهجرة والنزوح عن الديار.

لماذا نتّفقُ على أنّ حياة الراحلين بدت وكأنّها مرّت كلمح البصر؟ لماذا نصرّ بطفوليّةٍ أنّنا لم نهنأ بعد بهم وإن كانوا قد بلغوا من العمر مبلغهم ؟ ولماذا لا نشعر بوداعهم الهادئ لنا وبوصاياهم بين الكلمات؟
وحده تسلسل ذكرياتنا الأخيرة معهم يحكي قصّة التأهّب للرحيل، يأتي ذكر الانجازات، والأهل والأقارب والأصدقاء، وكأنّ كل كلماتهم تقول: سلامٌ عليكم، طبتم ما حييتم وطاب ممشاكم، عين الله ترعاكم والملتقى الجنّة.

تبكي آخر العنقود أباها، وتبكيه المدينة التي كانت تسكنه بكاءً مريراً بلا صوت؛ تحيا بعدهُ حياةً مباركةً عامرةً بالصالحات هانئةً طيبة، وتدرك أنّ الأبّ هو الرجل الأغلى في حياة الأنثى، لا أخ ولا عمّ ولا خال ولا زوج ولا ابن مثله، وحده بابا هو البطل الأبدي والفارس الجميل، كلّما رحل أبٌ عن الكون غنّت الصباحات للبنات: «بُنيّتي بُنيّتي مقامها في مهجتي،، إن كان لي من فتنةٍ في العمر فهي فتنتي».
تسألني الطفلةُ بحرقةٍ ودمعةٍ تكوي القلوب كيّاً أسئلةً موجعةً فريدةً لا بدّ لها من إجابة: لِمَ لَمْ ينتظر حلول العيد، لِمَ لَمْ أحصل على عناقٍ طويلٍ وقبلةٍ أخيرة؟ هل تألّم لحظة خروج الرّوح؟ لماذا كانت بسمته جميلةً جمالاً أخّاذا في تلك النّومة الأخيرة؟

لم ينتظر حلول العيد لأنّ الموت علمٌ من علوم الغيب لا نعرفه، ولأنّه علينا وعليهِ حقٌّ مُذ كان جنيناً في الرحم وكُتب في اللوح المحفوظ يولد يوم كذا ويستوفي ليلة كذا ويعيش شقياً أم سعيد.
الركن السادس من أركان الايمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره، ولعلّها من خيرة القدر لمن نحبّ أن يصادف رحيلهم أخْيَرَ أيّام العام كي ينالوا دعاءً مباركاً من الأحباب.
بالنسبة للعناق والقبلة الأخيرة، فلعلّه اختصّك بقبلةِ صباحٍيّةٍ وحُضنٍ يوميٍّ مع كل شروقٍ حين ودّعك: «إذا طلعت شمس النّهار فسلّمي،، فآية تسليمي عليكِ طلوعها»؛ لك في بيت الشعر ذاك أهنأُ ضمّةٍ ما امتدّت الحياة، يوصيكِ فيه بالسلام عليه كلّ صباحٍ يا صغيرتي، كيف يكون السلام؟ بالدعاء، هذه علاقةٌ جديدةٌ من البرِّ تبدئينها معه، حبٌ لا مرئيٌ جميل، لا يعلم عنه أحدٌ إلا الله، وسجّادة الصلاة، والاستغفار له كلّما ضجّ الحنين إليه.
لن تروي عطشك للقائه قراءة كلماته ولا تأمّل صوره، لن يهدأ الشوق إلا بالدّعوات: اللهم اغفر لأبي، اللهم ارحم أبي، اللهم اجعل له نوراً ومن جاوره، اللهم اغفر لي وله وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين، ربّ اغفر لي ولأبي وللمؤمنين والمؤمنات السابقين واللاحقين الأحياء منهم والأموات يا رب العالمين، اللهم أكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، واجعلني واخوتي خير خلفٍ لخير سلف.
ليس دعاءً سهلاً يا نور العين، ستشبكين يديك الصغيرة بأيدي إخوتك وتكوّنون أقوى عصبةٍ لا يفرّقها مُفرّقٌ مهما كان وأياً كان، أنتم جنود والدتكم ودرعها وذكرى والدكم الجميلة لها ما تبقّى من الحياة، كلّما أنجزتم وتفوّقتم كنتم لها قرّة عينٍ وهناءً لقلبها.

تألّم للحظات، لكنّ الألم سرعان ما زال، وراحت الملائكة تنادي ما بين السماوات السبع، جاء فلان ابن فلانة، وراح أحبّته في السماء يستقبلونه استقبال من وصل أخيراً من الحرب الضروس، وأحبته في الأرض يودّعونه على أمل أن يكون النصر حليفهم في الحرب ذاتها.

«أبي» لا لفظةً في الكون بحنانها، تكبرين، وتزدادُ تشبّثاً بذاكرتك العطرة يوماً بعد يوم، تتلهّفين إليه، تعاتبينه في الثلث الأخير عتاب المشتاق للمشتاق، ألم تستطع أن تنظر قليلاً ريثما تكبر الحوريّة خاصتك؟ أما كان من الممكن أن تحضر لي كعكة نجاحي في الثانوية العامة؟ كم كنت بشوق لأن تكتب عنّي وتشارك النّاس صورتي وصورتك وأنا أتخرّج من الجامعة؟ كنت أحبّ أن تزفّني عروساً، أن أنجب الأحفاد الكُثُر ينادونك جدو، كنت أحب وأحب ألف حبٍ وحبٍّ يا بابا.

في الجنّة نلتقي، إلى حين ذلك اللقاء أنا واخوتي معاً سنكمل من بعدك المشوار، عند الحوض نراك، ونشرب منه الشربة الهنيئة التي لا نظمأ بعدها ابداً، في الجنة لا فراق، أركض إلى حضنك الدافئ الجميل، وأقول: بابا، أقول: قد كبرت ريحانتك، ولا ريحانة في الكون كانت تدعو لأبيها في الحياة كما كنت أدعو لك.

رحم الله من مرّ على الدنيا كماء الزهر وحمام السلام، من كان دأبه أن نبتسم ونتفاءل ونعمل، وأن نحسن الظنّ بالله، من سنذكره بالخير ونحنّ إليه ما طال الزّمان، اللهم اجعل له نوراً ليس كمثله نور.

=====

هامش:
تقولُ: لم أرَ والدنا في المنام منذ فترة، ورأيتهُ بالأمس، كُنتِ بجانبه، قال شيئاً مّا لكِ أو عنكِ، وتبسّم.
أقولُ: خمسون!
وأُسرُّها في نفسي؛ لقد كانت اشارة! كُنت بحاجة مُلِحّةٍ لها.

*خمسون: كناية عن خمسين ريالاً كان والدي يكافئُ بها على ما يُعجبه من قولنا له، وكانت لها.
17ديسمبر2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *