عنق الدنيا

كان شهراً ذا مشاعر فيّاضة، رافقتُ الأهالي افتراضياً فرحة نجاح الأبناء في الثانوية العامة، شاركتهم بصرياً ووجدانياً مشاهدة صورهم التذكارية في حفل التخرّج من الجامعة، أبلغُ عبارةٍ لم تفارقني مُذ قرأتها، وحلمت بقولها يوماً لا بدّ أنّه آتٍ، عبارةُ أبٍ لابنته: «شكرًا لك يا ابنتي فقد كنتِ في الحقيقة أجملَ من حلمِ والديكِ بك».

لا أدري كيف كبرتُ فجأة، لست متفاجئةً تماماً، لكنّ استمتاعي بمناداتي «خالة» يبدو مُقلِقاً بعض الشيء، هذا اللّقب سيسحبُ من بعده نداء «نانا»! لا أستطيع تخيّل نفسي كذلك، فأنا بالكاد اعتدتُ على كوني «ماما».
«النانات» أحلى إناث الكون على الإطلاق، قرأتُ نصاً لاحداهنّ منذ أيّامٍ تبارك لحفيدها صباح عرسه وتسأله ملاطِفةً: متى كبرت بهذه السرعة يا نانا؟
هل سأزفّ من بعد أحمد أبناءه؟
هل سيحضر تلكم الأفراح جميع أفراد عائلتي؟

أعلم أنّها سنّة الكون، وأنّها يوماً مّا سترحلُ عنّا كما رحل، أدركُ أنّا سنفتقدها كما نفتقده، وسنشتاق إليهما معاً كما كلّ الأبناء إلى الأمّهات والآباء تشتاق.
أوّل أيّام سفرها أقنعت نفسي أنّي سعيدةٌ لسعادتهم بزيارتها، حدّثتها أنّ لهم في قربها حقٌ كما لنا حقّ، كانت بسمتها الوضّاءة في الصّور تكفيني، صوتها ورؤيتها مسرورةً تفي بالغرض.

البيت يناديها، أشجار الحديقة الخارجية، ونبتات الزينة الداخلية، نخلتنا المعمّرة والصبّارة الصّغيرة، مصحفها، أقلامها ودفاترها، كرسيّها وخيطانها والخرزُ وآلة الحياكة والأقمشة، لماذا لم تبدُ رائحةُ كعكة العيد خاصّتي كخاصّتها؟ أين يكمن السحر وكيف تُخفي بين أطباقها اللذيذة ذاك السرّ، لستُ أدري.

ما معنى: ولدٌ صالح يدعو له؟
كيف نربّي بيننا ذلك الولد؟
هل يكفي دعاؤنا بأن ينبته الله نباتاً حسناً بلا صبرٍ على تنشأة؟
هل نلوّح بعصا جنيّة الرسوم المتحرّكة ونتمتمُ: هابرا كادابرا! كُنْ صالحاً يا ولدي لِيَكون؟
بالتأكيد لا، التربية ليست نزهةً ولا رحلةً إلى بحرٍ وبستان، جنيُ الثمار لا يتمّ بين ليلةٍ وضحاها، قد تكون الثّمرة شهيّة الشكل رديئة المذاق، نريدها ناضجةً طيّبة، نسعى لمثل ذلك القطاف ما حيينا رغم مشقّة السّعي، ونؤمن بآية رب العالمين: “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ”، وقوله فصلٌ ما هو بالهزل.

بعضنا يرحلُ قبل أن يقطف الثّمرة، ربّما لأنّها لم تنضج بعد، وربّما لأنّها ما زالت تحتاج سقياً وفيراً أو حرث تربة، أو صبراً على تغذيةٍ من أشعّة الشمس والعوامل الطبيعية نهاراً بعد نهارٍ حتّى تستوي على عروشها، قد نرحل ونخلّف أفكاراً عظيمةً كثمرة سفرجلٍ فوق الشجرة لم يحن موسم حصادها بعد، ثمرةٌ قد تغص لحظة تذوّقها، قد تبدو قشرتها مغبرّة، قد تحتاج فركاً وتنظيفاً قبل أكلها للاستمتاع بطعمها حامضاً حلواً وفريد؛ إغرس بذرتها غرساً صحيحاً، والله يفعلُ ما يُريد.

تموز (يوليو) 2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *