وهن

لم يستغرق الأمر أكثر من خمس ثوانٍ لتطلب منّي الممرضة التّوجه لقسم الطوارئ في المستشفى حالاً، تسع وثلاثون ونصف درجة حرارة غير مرحّب بها في كل زمن، فكيف بزمن الكورونا.

أنا التي يعاتبني رجل الأمن كل يوم صباحاً حين تظهر له حرارتي منخفضةً على الميزان ناصحاً: يجب أن تتناولي الإفطار قبل المجئ للعمل.

أُمسي اليوم على حين غفلةٍ بدرجة الحرارة هذه، كيف ولماذا؟ لا أعرف.
الذي أعرفه أنّ الانسان خُلق ضعيفاً، أنني خلال خمس دقائق وجدت نفسي محاطةً بطبيبين وممرضتين يخبراني أني يجب أن أخضع لتلك المسحة الخاصة بكورونا حتى وإن كنت قد تلقيت المطعوم منذ أسبوع، الذي أعرفه أنهم سألوني ما يقارب العشر أسئلة وأنا متعبة جداً لا أقدر على الكلام ولا أستطيع صلب ظهري قائماً حتى.

يقول الطبيب أنّ عليّ عزل نفسي عن العائلة أربعاً وعشرين ساعة حتى تظهر النتيجة، وأنّه سيكتب لي إجازةً مرضيّةً حتى أتغيّب عن العمل، وأنّ عليّ مغادرة المستشفى حفاظاً على سلامتي وسلامة الآخرين.

كل ذلك حدث فجأة.

أنت تصبح عرضةً لتلك النظرة الحذرة بمحض الصدفة كثيراً من المرات بالحياة.

كان يوماً عادياً، يشبه كلّ الأيام، روتين جميل، استيقاظٌ متثاقلٌ بعد الغفوة الخامسة للمنبه، اختيار ألوان هندام العمل، اللمسات الأخيرة على البيت، التأكد أن كل شيء على ما يرام قبل المغادرة تسع ساعات وأكثر، الجديد اليوم أنّ الوالدة تخضع لعمليةٍ في المشفى وأنّي سأتوجه إليها وأقضي الليلة معها ثم أتوجّه إلى عملي غداً من عندها بإذن الله.

منذ الصباح تمّ قياس حرارتي عدّة مرات وكلّ الأرقام ظهرت على ما يرام، آخرها منذ ساعةٍ لحظة دخول المستشفى، لا أعرف كيف بدأت أخبو وأشعر بالبرد، بدل أن أهتمّ بوالدتي راحت تهتمّ بي من على سريرها، تعرفنا أمهاتنا خيراً من معرفتنا أنفسنا، تعرف أميّ أن ثمّة شيئاً خاطئاً يحدث معي إذا بدأت بالهلوسة وأنا نائمةٌ ليست بالنائمة!
أربع ساعاتٍ مضت وأنا في حالة انكارٍ أنّي من الممكن أن أمرض، أتت الممرضة لتتفقد والدتي، وحدث أن طلبت منها أن تقيس حرارتي مرةً أخيرة لتطلب منّي اخلاء الغرفة مباشرة.

هكذا هي الحياة، تتبدّل أحوالنا بلمح البصر، بثانية!
عدت إلى البيت لأقضي ليلةً لم أقض مثلها منذ سنوات، ليلةً تشبه وهناً على وهن، كثيرٌ من الأسئلة راودتني، هل هو الفيروس أخيراً؟ هل أُحجر مع الأولاد؟
تباً للطبيب لماذا لم يطلب منّي عزلهم عنّي أيضاً، كنت حينها سأستغلّ هذا الحجر بالطباعة وأُنهي كلّ ما لم أستطع إنهائه حتى اللحظة، لو أنّي وحدي فأنا لا أحتاج إلا شاياً كثيراً وخبزاً وزعتر، ماذا لو أنّي سأفقد حاسّة التذوق الفترة القادمة! كم من الوقت سيمرّ دون أن أستمتع بالشوكولا؟ ماذا لو أنّي سأفقد حاسة الشم لفترةٍ أيضاً؟ هل سأُحرم من الاستمتاع بعطر العيد الجديد؟
لحظة، هل قلت عيد؟
أيُّ عيدٍ هذا الذي سأقضيه دون أن أرى وجه أمي؟
أيُّ عيدٍ هذا الذي سيضطر قبله أفراد المنزل جميعاً للخضوع للفحص والاطمئنان، ويضطر المسافرون لالغاء حجوزاتهم قدوماً إلينا من باب الحرص والسلامة وأخذاً بالأسباب.

بقي أن أقول، الحمدلله على نعمة الصحة والعافية، الحمدلله دائماً وأبداً، دمتم بشفاء، دمتم بحفظ الرحمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *