خلص رمضان

ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله.

مع نهاية أوّل إفطار، يقول عميد العائلة قولته الشهيرة عاماً بعد عام: خِلِص رمضان! فتدمع عينه، وتبكي قلوبنا.

نعم، خلص رمضان!

الفرحة والهمّة والغرام الذي نحن عليه اليوم، يغدو روتيناً لذيذاً بقية الثلاثين يوم.

نتبادل التهاني والضحكات، نتبادل النّكات سرّاً: هلّا أجبنا على جميع رسائلكم المنسوخة برسائل ملصوقة، ورددنا على: “رمضان كريم” بـ”عيد سعيد” وقامت وخلصت (1).

كم ستدعو لنا الأجيال القادمة لتحديد النّسل الذي جرى في الأعوام الأخيرة، كم يبدو مرهقاً ألا تجد مفرّاً من بندقيّة عينيّ والدتك المعنويّة ورشّاش والدك الحقيقيّ، مصوّبان تجاهك ثلاث مرّات كلّ عام: اتصل على أعمامك وعماتك وأخوالك وخالاتك برضاي عليك بينوبك ثواب!

ما اختلفنا والله بدنا الثّواب، بس هدول ثلاثة وعشرين عم وعمة وخال وخالة، بدهم شهر بحالو تهاني وتباريك، يا دوبنا نخلّص مكالماتهم لآخر يوم برمضان لنصبّح على نهار العيد وتنعاد نفس الدّويرة، نفس المكالمة: نسخ ولصق الله وكيلكن ما تغيّرت من خمسين سنة بس بنغيّر الأسماء، كيفكن شو أخباركن، شو بتوصّونا، اشتقنالكن، والله مقصّرين، إدعولنا وادعوا لولادنا، والله يجمعنا على خير…

تسبيلة عين واحدة من “الميمة” كفيلة بأن تشعرك بجلد الذات المرير، وتقرأ في نظراتها: إذا ما حتتصل أحسن لك ما تصوم!!

يحكى أنّ قدارة (2) وقدرة الأمهات في بلاد الشام أسطورة في عالم الأمهات عبر العصور، وأنا _وأعوذ بالله من كلمة أنا _ بكلّ فخرٍ والحمدلله منهن.

*****

كان يوماً جميلاً، جميلاً جداً.

التحوّل من مسار أن تكون طفلاً إلى مسيرة أن تكون قدوةً أماً أو أباً ليس بالهيّن، بالأمس كنت ” تنقّ ” واليوم ” يُنقُّ ” إليك (3).

منذ الثالثة عصراَ وأنا أسلّي صيامي بسيمفونيّة ولدي مليئةً بالعبر والعبرات والمفخخ من العبارات.

يقول: ماما، شكلي حأموت من الجوع!

ماما أنا ما تخيّلت بحياتي إني حأموت جوعان.

ماما شكلو اليوم آخر يوم بحياتي.

لا أستطيع الردّ سلباً ولا إيجاباً، ابني _واللهُ خيرٌ حافظاً_ ما بيتعلّم عليه بيعلّم بلد، وبيعرف ردّ الأمهات الشّهير: ربّ العالمين فرض الصيّام لنتذكر إخوتنا في كلّ مكان، والصوم للرحمن وهو يجزينا به، لديّ أحمدٌ طليق اللّسان قويُّ الحجّة والبيان، يستطيع أن يصعد على منبر الجمعة ويلقي خطبة، ولكنّ الفتى جاع فطارت حكمته وأوشك أن يطيّر حكمتي معها بنفاذ الصّبر منه أيضاً.

تذكّرت كم صبرت والدتي على نفس الأغنية منذ ثلاثين عام، كانت تعدّ الإفطار وأنا ألحّن لها: جعت جعت! وأكرر وأكرر، والجميلة تبتسم وتبتسم وتبتسم.

إلى تلك الجميلة أقول:

كلّ عام وأنت بخير.

كلّ عام وحلب الشهباء بخير.

كلّ عام وعائلتيّ للجدّين وذرّياتهم في أرجاء الكون بخير.

كل عام وسورية والأمة الاسلامية بألف ألف خير.

كل عام ومن نحبّ ومن يحبّنا بخير.

كم كان جميلاً في حياتنا هذا المزج الفريد بين حلب والشّام، كم بدا ممتعاً أن يسألك الحلبي: إشْبَك (4)؟ فتقول: ما إشبي شي (5)، ويضاحكك الشّاميُّ: شو منشان (6)؟ فتقول: مو منشان شي (7).

ما بين “أبوس روحك” و”تقبرني” مضت أيّام العمر، فلا نحن ملنا كلّ الميل إلى فستق حلب، ولا نحن مللنا يوماً ياسمين الشّام (8).

شكراً يا أمي يا عطراً في العمر أنّك “حلبيّة”.

شكراً من قلعة حلب لحيّ السبيل للموكامبو لحيّ الحميديّة للعزيزيّة للجميليّة لخان الحرير ولباب الحديد، لساحة السبع بحرات ولباب النيرب ولباب الفرج وحي الجديدة وباب قنسرين، شكراً من الباب الصغير لباب السعادة ولباب العراق ولباب الأحمر، شكراً لقاضي عسكر وشكراً لباب السلامة، شكراً لحلب متر بمتر وشبر بشبر، ومية السلامة، شكراً لليبرق واللحمة بكرز والسمّاقيّة والكبّة بصينيّة، شكراً ع المامونيّة ومربّى الورد وشراب اللّوز والهيطليّة، شكراً اليوم وكلّ يوم بتطبخيلنا فيه أطيب سفرجليّة.
شكراً يا إمّي، الله يخليلنا ياك يوم (9).

تقبّل الله منّا ومنكم.

وللتذكير: خِلِص رمضان.

رمضان 2021

#نص_بالعامية

= = =

هامش:

(1) قامت وخلصت: تعني انتهاء الحدث بسرعة كلمح البصر دون هدرٍ للوقت.

(2) قدارة: كيد، فلانة قادرة: تعني صاحبة كيد.

(3) النقّ: الزنّ المتواصل، تستخدم لفظة النقّ أكثر لأنّ ازعاجه يشبه نقيق الضفادع فعلاً.

(4) اشبك: سؤال للاطمئنان عن الحال، تعني: ما بك.

(5) ما اشبي شي: اجابة السؤال وتعني: لا شيء بي، اجابة قد تواري كذبة.

(6) شو منشان: ماذا يحدث هنا، لماذا فعلت ذلك، أو فسّر ما يحصل. حمّالة أوجه.

(7) مو منشان شي: لا شيء يحدث، ليس لشيء، لن أفسر شيء، عموماً أيضاً: اجابة تواري كذبة.

(8) أبوس روحك وَتقبرني: لفظتان شهيرتان في البلاد، الأولى حلبية والثانية شامية، كانت غزلاً جميلاً وتحوّلت مجرّد كلمات تذيّل بها الطلبات، وربّما ما زالت عند البعض تعني تعبيراً عن الحب، يستخدمها العشاق بين كلماتهم على أنها مجرّد لفظة بين الكلمات لزيادة الحبّ تعقيداً، “عكس عكوس” كما يقولون، والأخيرة لا أشرحها.

(9)يوم: أحد ألفاظ مناداة الأم، وتم قبله ذكر أسماء بعض أحياء مدينة حلب الشهباء، وأسماء أشهر أطباقها.

= = =

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *