نا

كنت في العاشرة من عمري حين زرتها لأوّل مرّة، أذكر شعور “المرّة الأولى” بأدقّ التفاصيل، أذكر حضن العمّات الدافئ وضحكة الأعمام المبهجة.
أتذكّر كمًا هائلًا من الحبّ اللا مشروط والبسمات، أذكر هناءً ليس يشبهه الهناء، وأذكر سلامًا ليس ينساه السلام.
لا أعرف عددًا للّيالي التي بتّها فيها، لكنّني إن جمعتها على مرّ الزمان فلن تفلح في جمع عامٍ واحدٍ ولا حتّى نصف عام، ولكنّها تكفي لأن أحيا على ذكراها الرضيّة العمر كلّه.
كيف ينشأ الحنين بين حنانَيْ الإنسان للمرّة الأولى؟ لستُ أفهم، متى ندرك أن ثمّة ما نفتقده بشدّةٍ ونشتاق إليه؟ لماذا وكيف نصرّ على إضافة تلك ال”نا” إلى نهاية كلماتنا عنها وكأنّنا ولدنا هناك وها هناك ترعرعنا.
أهو الشعور بالوحدة؟ أم أنّها الغربة؟ أم هي الحاجة إلى الانتماء؟ إلى الرحم إلى الدم إلى عائلة العائلة، إلى اللهجة، إلى التفاصيل، إلى كلّ شيء بكلّ ما تعنيه كلمتا: “كلّ شيء”.
ما هي البلاد؟ من بعد ألف شتاتٍ من هي بلادنا؟
ما هي الغربة؟ لماذا نشعر بها؟ وحتّام؟
ما هو الانتماء؟ هل نشعر به؟ كيف؟
أحبّ المدينة التي أسكنها، ربّما تُحبُّني هي الأُخرى وتسكنني، ولكنّ فيضًا لا يُغني عن غيضٍ إن كان الغيض جذرًا لا غنىً للجذع عنه.
تتدمشق مدينتنا طيلة العام تدمشقًا فتّانًا يسرّ الناظرين، هذه المدينة تشبهني، ربما أشبهها، على الأرجح أن كلتينا تشبه ساكنتها بشكلٍ ما، لنا أسماء لا ننتمي إليها ولا تُشبهنا اضطررنا بإرادتنا أن نشبهها ونتعايش معها وسعينا ما استطعنا أن ننتمي إليها وأن نكون ما سُمّينا به.
تتزيّن أسوار منازلها بالياسمين الأحمر والجهنّميات بألوانها الخلّابة، في كلّ مرّةٍ ألتقط فيها صورةً لياسمينةٍ حمراء أتذكّر مزارع “بلادنا”، أشجار الفستق والتفّاح على مدّ النّظر، ونسمات الحقول الباردة تلثم الخدّينِ بلطفٍ معهودٍ ليتردّد الصوت شجيًا بين جنبات النفس رغم انكسارها بلا استئذانٍ: “يا محمّلين العنب، تحت العنب تفّاح”.
في كلّ صور الطبيعة التي ألتقطها أرسل رسائل حبٍ سرية إلى الجنّة، أخبرها أنّني في عمرٍ من الأعمار زرت هاهنا أرضًا تشبه بعض الشيء الجنّة اسمها “بلادي”، أنها جنّتنا في هذه الدنيا وأنّها أُمٌ صابرةٌ لا ذنب لها بما كان ولا حتى بما سيكون، وبأنّ رحمن السماوات والأرض ومليكهما أعلم بالخير كله، وبأنّنا حتى الرمق الأخير سنضمّ تلك ال”نا” إلى حديثنا عنها، وبأنّنا ما حيينا سنفتقد تلك الخيالات الذي ذهبت مع الريح، وسنشتاق على استحياءٍ إلى شئ ٍكان يومًا شيئًا ولم يعد من بعده أيَّ أيِّ شيء يُذكر والله قضى وقدّر والله أكبر.
اللهمّ أبدل غرباتنا وهجراتنا في أصقاع الأرض خيرًا واجعل لنا منك نورًا يا نورًا على نور، ورضّنا وارض عنّا وأصلح لنا شأننا كلّه ولا تكلنا وذرّياتنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *