قبلة

لا أذكر آخر مرّة قبّلت فيها الحجر الأسود، أذكر أنّ روحي كانت تئنّ حنينًا لعمرة، وأذكر كم عامًا مضى منذ الأخيرة.
لا أذكر كم مرّة تهوّرت فيها في الحياة، وأذكر أنّه من دواعي سروري أن أتهوّر، وأذكر أنّي فعلتُ ذلك تكرارًا بكلّ فخرٍ مراتٍ كثيرة.

أيُجدي الانتظار نفعًا؟ لماذا نعبّر عن بعض الحبّ بالقُبَل؟ هل كانت تلك القُبلة تستحقّ صبرًا مثل ذلك؟
لا أزيد عمّا قال عُمَر رضي الله عنه: إنَّما أنت حَجرٌ، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقبِّلُك ما قبَّلتُك.

أذكر أنّي أردت، أذكر أنّي لم أعد أشعر بملمس الأرض تحت قدميّ، أذكر أنّي صرت وكأنّي في عباب الموج وكأنّ حوتًا سيلتقمني وأنا التي لطالما لم تسمح بأن يلتقمها أحدٌ لا في جوف البحر ولا في خوف البر، وأذكر صوتًا أنثويًا يهمس في أذني: “اصبري لقد وصلت، اصبري لم يبق إلا القليل”، ثمّ نادتني باسم ابني الذي سمِعتهُ للتوّ تقول: “اللهمّ زحام الجنة، اللهم زحام الجنة”، وأنا على وشك أن أتراجع لأنّي لم أعد قادرةً على التقاط أنفاسي.
حين هممت بالرجوع منعتني، أمسكَت بكتفيّ وشدّت عليهما بقوّةٍ ودفعتني، كنت لا أستطيع حراكًا وبيننا وبين الحجر مسافة جسد شخصٍ واحد لا أكثر، فناداني رجلٌ من خلفها ثانيةً: “ستستطيعين، لقد وصلتِ”، علمت لاحقًا أنّه زوجها، وجدت أربعة أذرعةٍ تطوّقني وتدفعني معًا وما هي إلا لحظةٌ خَتَمَت ساعة صبرٍ فوجدتني ألمس الحجر، وأقبّل الحجر، لينهمر دمعٌ بكى له ومعه قلب الحجر.
التفتُ أهمُّ بالخروج، أريد أن أبحث عن الطفلين اللذين أرسلتهما حين لم يستطيعا الصمود، وأريد أن أعرف كيف تخطو للخلف وحدك خطوةً في حين يخطو الجميع معًا للأمام الخطوات، فإذا بالذراعين تمتدّ ثانيةً وتشدّني إلى الخارج من مرفقيّ وتقول: “لا تخافي، الحمدلله استطعتِ”، شدّني إلى حيثُ الخلاصُ واطمأنّ أنّي سأجد أبنائي، وصوت زوجته يناديني من بعيد: “نلتقي في الجنة يا أم أحمد، الموعد الجنة”.

لم أرَ عينيه ولا عينيها لكنّ الله رأى، لكنّ الله يعلم كم من أحبّة كنّا نحبّ أن نلقاهم هنا نحن على موعدٍ معهم بإذنه هناك.

يا رب. 🤲🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *