رسم

جبلان بينهما الشمس، المشهد الوحيد الذي كنت أرسمه في حصّة الرسم، علاقتي بأقلامي غريبة بعض الشيء، القلم الذي يخيّل إليّ أنّ أصابعي تهيم بتطويقه غراما حين أهمّ بالثرثرة الكتابيّة تنعدم حواسّه الخمس تماما حين تهمّ تلك الساعة ثقيلة الظلّ بي.

يفترض بهذا الدرس أن يكون ألطف ما في الأسبوع المدرسيّ لأنّه مساحة فريدة للتعبير الفنّي يحتاجها التلاميذ لاكتشاف النفس والتعبير عن الذات بالفن، ولم أعرف أن أعبّر عنّي سنينا إلا بتلك الرسمة، فصَدَقَت أيّما صدقٍ كرميةٍ من غير رامٍ في مستقبل حياتي وكأنّ القَدَرَ موكّل بالمرسوم والمكتوب كما هو شأنه مع المنطوق.
أكرّر رسمها مرّة بعد مرة مع بعض لمسات لم تكن سحرية ولا سرية، فأرسم في زاويتها اليُمنى كوخا خشبيا عتيقا سقفه قرميد أحمر مغبر شبابيكه مستديرة، له مدخنة لم تهدأ يوما تدلّ على حياة بوجود سكّان فيه، صغير بعض الشيء ولكنّ فيه كلّ شيء.

ما معنى كلّ شيء؟ تعني: العائلة التي نختارها لأنفسنا ونجاهد في الحياة لأجلها ولأجلنا، ربّما.

تسكن كوخي الخياليّ المرسوم عائلة سعيدة وهبها الرحمن بنتا وصبي، أحيانا أرسم طريقا ضيّقا متموّجا يبدأ من سور باب حديقته العريض مؤدّيا إلى بحيرة صغيرة فيها بطٌّ وأسماك، حولها زهر وأرجوحة وشجيرات، في سماء رسمي غيوم وطير، ومساحة فارغة تكفي لأن ترسم لي فيها المعلّمة نجمة بالقلم الأحمر وأن تكتب لي فيها أحسنتِ وأن تكتب لي درجة.
لم تعلّق يوما على التكرار ولم تحرجني، حاولت مرارا ما استطعتُ أن أغيّر في طريقة التقديم الأخيرة، مرة ألّون بالألوان الخشبيّة وثانية بالشمعيّة، مرّات بالزيتيّة والأقرب إليّ تلك التي أرسمها كاملة وأظللها بقلم واحد ليتباين اللون الرماديّ فيها درجات متدرّجة بين داكنة وحتّى أفتح ما يكون.

كانت رسمتي نهاريّة دوماً، لم أستبدل الشمس بالقمر يوما، كنت أحبّ الطريقة التي أرسم فيها أشعّة للشمس كثيرة وكأنّها شغلي الشاغل الدائم وفكرة فنّي العريق العبقريّ المجيد ذاك، وباقي ما أخربشه على الورقة تحصيل حاصل ليس أكثر من بعض رتوش وتفاصيل.

للشمسِ أيدٍ كثيرةٌ بعضها طويلةٌ والبعضُ قصيرة، لكلّ يدٍ لون: أحمر أصفر برتقالي، أياديها بالخير لأيدينا يومًا بعد يومٍ تتصل وتمتدّ، الشمسُ خيّرةٌ نيّرةٌ معطاءةٌ مبادرة، كلّ ما تطلبه منك أن تستيقظ قبلها وتُحسن استقبال نهارك كي يشرق حظّك من بعد جهد كما تشرق لذوي العزم الحظوظ.

كلّما وأينما خبَّأت نفسك منها وجدَتْك، تمدّ شعاعًا ذا صوتٍ لا يسمعه أحدٌ في الوجود مثلك وتتبسّمُ لك ضاحكةً قائلةً: أمسكتك.

أصحاب الشمس سعداء، هكذا كنت أفكّر، فالشمس لا تتركُ صاحب همّةٍ في الحياة وحيد، حتى وإن غلّقتَ النوافذ وأسدلت من حولك الستائر وانكفأت على نفسك وضممت نفسك بنفسك هربًا من نفسك إلى نفسك ستكسر لأجلك بعض أشعّةٍ لتصل إليك دافئةً مائلةً من تلك المسافة البسيطة ما بين النافذة والستارة.
صديقةٌ وفيّة لا تريد منك أكثر من أن تستيقظ لما يجري حولك، أن تفتح عينك جيدًا عمّا يدور قولك، أن تحترم ساعات يومك، أن تركّز، وأن “تُصحصح”، وأن تلحّ بالدعاء شروقًا بعد شروق داعيًا ربّ الشمس وضحاها كلّ همٍّ وكلّ يومٍ وكلّ رسمٍ: يا رب، يا رب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *