وصيّة

أحياناً أشعر بحرجٍ من الاستمرار بالكتابة، أحاول الهرب من البوح بأيّ طريقة، تراني أتفقّد من حولي، هل لديكم حاجيّات من السوق، هل علينا واجباتٌ أسريّة أو التزاماتٌ اجتماعية، أحاول الخروج من المنزل كثيراً للابتعاد عن كارثة كتابة ما لا ينبغي أن أكتبه، لا أحب خطّ ما أعيبه على غيري، لا أرسل رسالة تهنئة أو تعزية إلا بشقّ الأنفس، يبدو التواصل الصّوتي أسهلَ من الكتابيّ أحياناً، لا أعرف كيف بدأت رسائلي إليك فلم تنتهي، ولا أظنّها تنتهي، ولا أريد لها أن نتتهي ما حييت، فلديّ من الأحمال ما تنوء به الجبال.
أعود إلى رسائلي إليك مرّات عديدة لأتأكّد من بعض الكلمات، هل كتبتها صريحةً وقرأتَها صحيحةً أم أنك تحتاج مراجعة طبيب العيون قريباً سلمت عيناك لي.
هذه الرسائل لا تشبه شيئاً بين كتاباتي، فيها شعورٌ ملغومٌ لا أفهمه، أخشى لو أني أعدت قراءته بعد عشر سنوات أنهمرُ بكاءً بغضّ النظر عن السبب.
أنا لا أعرفك بعد، ولا أريد أن أعرف، متعة السّرد تتجوهر في غموض شخصك، لا أعرف من يقرأ كلماتي الآن، ولا أعرف من يقرأ هذه الرسائل لاحقاً، وماذا يفهم منها أيضاً، وأيّ صورةٍ يتصوّر لي عنها، بل إنّي أحياناً أتمنّى أن لا يفهم القارئُ ما أقصد، وأن يفسح لأفق قراءته المجال كما فسحتُ لآفاق كتاباتي الخيال، أنا لا أشبه كلماتي، أعطي الثقة لنقاء سريرة القارئ وصفاء بصيرة الكاتب في هذه السطور.
كان لا بد أن يساعدني محرك البحث العنكبوتي البارحة لأسبر أغوار الزبرجد وأستكشف ولو شيئاً يسيراً ما هو؟ ومن هو؟! رغم أني أعلم أن الشّبكات لا تُعطي كل ذي حق حقه ولا تفي كلّ ذي قدر قدره، تتفوّق عليها في بخس النّاس حقوقهم وأشيائهم جدران العوالم الافتراضيّة الزرقاء وسخرية التفاعل عبر وجوهها المتعددة الصفراء التي صدّقها النّاس وهي كذوبة، لا أستطيع أن أثق بها كما لا أريد لك أن تثق بجداري، جميعنا نعرف أننا كثيراً ما نضطر لاستخدام هذه العوالم كعصا موسى أحياناً، أهشُّ بها على غنمي وليَ فيها مآربُ أُخرى، غنمٌ ومآرب والقافلة تسير، ويستمرّ النفاق الاجتماعي مخدّراً للمشاعر والقلوب بأدعمه وأحببته وأعجبني!
تبدو الرّسائل مدهشة، نُطق القلب الخَروس حرفاً جريئاً بعد نومة قلمه كأهل الكهف يبدو مشوّقاً، توقيت الكتابة العجيب تلميحٌ يرسم ملامح المستقبل لي، لكم أخافتني نفسي وأمرتني ألا أستمر وكأنّ حرفاً لم يكن، وكم حاورت خواطري: لا ينبغي أن ترسلي رسائلاً لمجهولٍ وغريب.
لكنّ الكلمات تتمرّد زمزماً تتفجّر، ونافورةً لا تستقر؛ كل رسالةٍ جديدةٍ تفتتح مجالاً لإلهامٍ مّا، ويستمرّ التّدوين بهدوء رتيبٍ غريبٍ أعلم علم اليقين أنّه الهدوء يسبق العاصفة، وأنّ بيني وبين خروج الحرف عن السّيطرة أجلٌ من الله قريب.
يبدو لي أني يجب أن أتحلّى بشجاعةٍ أتخلّى فيها عن عُرف التقاليد لحظة يا زبرجد، إما يمتد بعدها الكلام والدعاء طويلاً، وإما أرى فردة حذاءٍ غاضبةً محلّقةً في السماء مصوبةً نحو نافذتي بإحكام؛ عادةً ما أُغلقها بقوّة، وأستمتع بإطلالتها على الفردات المسكينة التي خسر أصحابها مرّتين حين اكتشفوا أنّي لا أعيدها لهم.
في مكالماتنا حلقة طمأنينة مفقودة، أعرف أنها لخللٍ بالعادات والتقاليد وجدنا عليه آبائنا، وأعرف أني أيضاً أكذب، لأنّي طمّاعة وأريد حوارنا كتاباً محفوظاً خشية أن يبقى صوتك طويلاً في ذاكرتي، وأنا كما تعرف أملك ذاكرةً بكّاءة.
لعلّ حواراتنا ينقصها السلام في وصفك ب: ” العم زبرجد ”، مع أنني أتفهّم أنّك لن تتقبلها كبرياءً ممن يملكون نفس المسافة العمرية بيننا.
لكني أراني بعد هذا اللقب المحبّب لا أرتعب من الزبرجد، بل إن الزبرجد يرتعب، ويدعو لقلمي في ظهر الغيب: صاحبتك لا تملك صمام أمان، تريد أن تدور الدّوائر، تريد سداد الدّين القديم بأن أحتضن قلماً جديداً صاعداً بحذرٍ بين الأقلام، يبدو أنّ حاملتك تتمتع بكيد نسوة المعمورة، ويبدو أن كثيراً حدث بين جدران بيتها بعد الرسالة الأخيرة.
أميرتك تقرأ بطريقةٍ غريبةٍ جداً، لا أدري متى تحوّلت قارئةً مُزعجةً تقرأ ما بين سطور الناس كما لا تحبّ أن يقرأها أو يفسّرها أحد، حلوتنا تبكي بإزعاجٍ دونما ملل، تقرأ رسالتي الأولى للمرة المائة بعد الألف، ويتوقف بها عندها الزمان، تجد بين سطورها وصيةً مخفيّة: إن لم يُقدر لنا في هذه الحياة أن تكوني لي فلا تكوني لغيري، أوصيك بالحديقة الزبرجدية.
يبدو أنّك قنّاصٌ ماهرٌ زبرجد روحي، اصطدت قلباً كفؤاً للعمل بالوصايا، أنظر في أمر وصيّتك مليّاً، وأسأل الله لي ولك راحة قلبٍ إن لم نفعل، أستودعك الرحمن، دمت بخير وصباح الخير أو تصبح على خير، والسلام، كل السلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *