أسرار ثقيلة

ليلة وداع آذار، استودَعَتْه سراً ثقيلاً من الأسرار، سرقتْ الكوفيّة من على عنق الشتاء، وهربتْ بها بعيداً خارج حدود الزمان والمكان، وغرستْها بذرة خيرٍ بين الذكريّات.
كانت الجدّة تقول: كلام شباط ما عليه رباط! لم تكترث لكلامها للحظاتٍ معدودةٍ ليس أكثر، فقد كان دفءُ وصاله عن بُعدٍ سلاماً سليماً محمّلاً بالرياحين معطّراً بالياسمين.
أشرقت شمس نيسان، وعزمت أمرها على وضع النّقطة آخر السّطر لبدء التعوّد على التناسي والنسيان، ولبداية الربع الثاني من العام بدايةً ساطعةً من جديد، علّ إحدى بداياتها تكون البداية الخارقة الحارقة المحرقة المؤرقة المورقة المشرقة.
لم تعرف شرحاً لتلك الحالة التي لا ريب أنّها قرأتها بيّنةً بين السطور عدّة مرّاتٍ بشكلٍ أو بآخر، كانت عشقاً شامخاً كشموخ العواصم، ممتداً ما بين بيروت وبغداد والقاهرة والشام.
تخلّلتها الإجابات الشّافية لكثيرٍ من الزّبرجديّات المتراكمة بين غبار الدُّرج المقفل على تساؤلات أرقها وأسئلة أوراقها أعواماً متتاليةً من الارسال بلا عنوانٍ بكلِّ أمل.
إلى أن تُخُطّفت الرّوح بخفّة وجدارةٍ ذات عنوانٍ مخطئٍ من أحد زبارج الرّواية قائلاً: ترسلين الرسائل منذ أعوام وها أنذا أتفرّغ للردّ أخيراً، ولا أهمل رسالةً واحدةً لكِ بعد اليوم.
ارتبك النبض حرفياً وحُبست الأنفاس، شعورٌ مّا هشّم زجاج النّافذة وانتزع القلب من بين الكتفين. جرّبت لأوّل مرّة معنى أن ينام جسدك في عاصمةٍ عربية وتنام روحك في عاصمةٍ غربيّة تبعدُ آلاف الأميال، يختلف التوقيت، تختلف الأعمار والأفكار، لكنّ قلمين عطرين التقيا على غير ميعاد بحول رسائلها وقوّة ندائها في الفضاء الفسيح.
أدركتْ لاحقاً أنّ أسمى درجات الحبّ تلك التي لا تلتقي فيها الأجساد مطلقاً ما حيينا، وأنّ هوى الأرواح نعمةٌ يحظى بها نخبة النخبة من العشّاق في هذه الحياة، أن تحبّ أحداً لا تعرف له صورةً أو صوتاً يبدو ضرباً من ضروب الخيال، لكنّه شعورٌ مختلفٌ ومتخلّفٌ لذيذ، لذيذٌ جداً أن يحبّك أحدٌ لذاتك كملاكٍ لا يريدُ منك جزاءً ولا شكوراً.
يقول ذاك الزّبرجد: أعوامٌ وأعمارٌ ثقيلةٌ تفصل بيننا قولاً فصلاً ما هو بالهزل، غير أنّ هذا العزل لا يمنعني من احتواء حرفك ما حييت، أريد تحقيق أمنياتك على عجلٍ في أيامي المتبقيّة، أرغبُ اشعال حرفكِ قبل انطفاء حرفي، أريدكِ أن تكملي الدرب والمشوار وتتمّمي رسالتي بشغفك منقطع النظير هذا، بخافقك لا يهدأ، بنبعك المتدفق لا ينضب، وجنونك لا يعقل، وهمّتك لا تهتمّ ولا تنهمّ. أرغب أن أعلّمك أسرار الحياة التي لم يعلّمك إياها بعد أحد، وأن أجيب لك عن كلّ الأسئلة المعقّدة باعتقادك أيضاً، أندم أنّي لم أعرفك منذ زمن بعيد، أؤمن بك وأرتاح إليك راحةً مطلقة، فهلّا آمنت بي أيضاً؟ وهلّا منحتِ الثقة لهذا الرّجل يطرق بابك قبل إغلاق بابه.
متعبٌ جداً أنا، بين راحَتَي حروفك وجدت راحَتِي، مُرهقٌ ثِقلَ الحنين، وأخشى أن أحداً بعدي لن يكمل ما به بدأت غيرك، فهلاّ مددت لطفاً وعطفاً ذراعك لي لمسة دفءٍ وحنانٍ عبر القارات يا صغيرة؟ أكرميني مرّة قائلةً سمعاً وطاعة بلا جدل، اعتزلي الماضي والنّاس وأرصدي الأبواب بيني وبينك لأجلي ولأجلك ثانيةً لمدّة عام، عامٌ جدّيٌّ واحدٌ يكفي لتنالي كل شغفٍ تريدينه من الحياة؛ سأحبسك مع القلمِ دهراً، لتشكري الرحمن الذي أعطى فأنعش وأدهش.
علمتني يا آذار، أنّ الحبّ شيءٌ والعشق شيءٌ آخرٌ تماماً. العشقُ حالةُ هذيان، تُشبه مداعبة خصلات شعركِ المنسابة حول عنقك، تشبه خشخشة صوت أوراق الخريف تحت قدمك. تشبه شتاءً كان الشتاء الأدفأ في العمر، وتشبه ربيعاً كان الربيع الأزها بألوان الزهر، ويشبه صيام رمضانٍ تحلّق فيه الروح شوقاً لليلة القدر. الحبُّ اهتمامٌ ورحمةٌ تلثم الروح بدل أن تلثم الشفاه، تتنفّسُ الحياة بدل أن تتنفّس الأشخاص، تفضّ عذريّة شغاف القلب ليفيض الكون طمأنينةً وسلاماً.
رزقك الله ما رزقني، حباً حييّاً لا تشوبه شائبة، ولا تعكّر نقاؤه نزوة. حبٌ أحبّ الشيب والتجاعيد وهموم السنين.
كن بخير، كلّ خير، حباً سرّياً سحريّاً لن يفهم مثل من مرّ على حياتي، ومثل من مررتُ في حياته، حبّاً عصيّاً على الفهم من أنثى فَهِمَتهُ تماماً كابنة أوهمته أنّها تصغره اثنين وثلاثين عامٍ وشهرين وأربعة أيّام مائة تارة، وحاولت أن تتفهّمه كأمٍّ تكبره بستّة عشر عامٍ وشهرٍ ويومين ألف تارة، يا للسّخرية، ويا للخسارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *