لُغَة

في ختام الأسبوع قرّرت أن تغيّر طريقها، لن تنعطف يساراً كما العادة، ستجرّب اليمين هذه المرّة، ربّما تلتقي أزهاراً وعصافير تترقّبُ التقاط بعض الصّور لها.
على بعد دقيقتين من المنعطف، يستوقفها الرّزق فجأة، خلال ستّين ثانية يُطلب رقم هاتف المعلّمة التي تواظب على الحضور إلى تلك المنطقة منذ عام.
كان فريداً أنّ رزقها كُتِبَ بعيداً كلّ هذه المسافة، وهيهات للرزق أن يقوم لنا دون أن نقوم من مقامنا، الفترة التي تقضيها على الطرقات ذهاباً وإياباً تذكّرها بهاجر كلّ يوم، تسعى بين بيتها وبيت التّلميذ ويقينها بالرزّاق بأنّه ذات رزقٍ منه سيفاجئها بزمزمِ سعدٍ ينتظرها في مكانٍ مّا أثناء رحلتها في الحياة.
تزداد ساعات العمل بموافقتها، وأيّامه أيضاً، وتصبح الإجازة الأسبوعية يوماً واحداً بعدما كانت يومين، وتذكّر نفسها بأنّها في عمر العنفوان الذي لطالما حلمت به، العمر الذي يشتاق الرّجوع إليه من هم أكبر منها سنّاً.
كان يوم سبت، أنهت حصص المتابعة الأسبوعيّة، طلبت منها والدته إقامة حلقةٍ لأطفال الحيّ غير النّاطقين بالعربية يتعلّمون فيها قصار السّور، ولسببٍ مّا تتنقّل الأرزاق بين منزلَيْ الطفلين المسلِمَيْن، طفلٌ كنديّ والثّاني أمريكيّ.
لعلّ الحياة تعلّمها درساً جديداً من دروسها في تلكم البيوت أيضاً، يحضر الصّغار، تبادرها الوالدة قائلةً: وليد وسليمان فرنسيّان لا ينطقان حرفاً عربياً واحداً ولا يعرفان من القرآن سورةً غير الفاتحة، احتسبي الأجر.
فرنسيّان ببشرة أفريقية داكنة جميلة جداً، اختارت الأمّ سورة الشّرح، لأوّل مرّة تجد المعلّمة نفسها مضطرّةً أن تعلّم بلغة الحبّ لا بلغة اللّسان، كان التّواصل بصريّاً وعن طريق إشارة الأيدي والبسمات، كان مربكاً لدقائق لمعلّمةٍ لا تعرف من الفرنسيّة إلا “غيناتها” الناعمة.
بدأ الحفظ والتّكرار، كانا متحمّسين أكثر من بقيّة الأطفال، اضطُرَّت كثيراً من الكلمات أن تُقسّم الكلمة لمقطعين، لم تتخيّل أنّ كلمة: “نشرح” ستحتاج كلّ هذا الوقت، في البداية ضحكا بعض الشيء، ربّما شعرا بغربة اللغة، ربّما.
عندما انتهت ساعة الحفظ كانا قد أتمّا حفظ الثلاث آيات الأولى من السورة، انهمرت دمعاتهما وسط الضحكات، الدمعات التي لم تعرف أن تردّ عليها إلا بحضنٍ وشوكولا، الدمعات التي أخذتها لقوله تعالى: “وكان فضل الله عليك عظيماً”.
في الإجازة، تفتقدهم جميعاً، اشتاقت للأحد، واشتاقت لذلك المشاغب الوسيم يفتح لها الباب تمام السابعة والنصف صباحاً قائلاً: صباح الخير، كيفك اليوم؟
يبدو أنّها ستحضرُ أفراحاً كثيرةً حين تكبرُ عشريناً تالية، ويبدو أنّها معهم تعيش ذكريات المدرسة كلّ يوم، ويبدو أنّها تستمتع بالحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *