غداً يكبرُ الأطفال، وغداً نقول: سقى الله أيّام الطفولة

نقول بلهجتنا لمن ودّع عزيزاً: «متل ما ودّعت تلاقي».
يُردُّ على القائل: «تلاقي الخير».
ويُقال لوالِدَيْ العروس صباح أوّل نهارٍ بعد الزفاف: «وَحْشَة الدايمة».

كنت أستغرب المقصود من العبارة، قيل أنّها دعاءٌ بأن يكون زواجاً مباركاً لا يُرجع بعده إلى العائلة إلا زيارة، وأن يبارك الله البيت الجديد ويعمره بأصحابه.
وعلى ذكر الأقوال، أحبّ قولَةَ المصريين: «وحشتيني»، وإن كانت لا تغني بحال من الأحوال عن دندنة: «اشتقتلك».

وحشتهما اليوم لم تكن بعد زفافٍ إلى شريك حياةٍ، كانت بعد زفافٍ إلى جامعة، إلى سفرٍ لطلب العلم، إلى حياةٍ تُقبل عليها الحياة.

يقفان في المطار، تلوّح بيمينها وتمسح باليسرى الدموع، كبر الصبي المشاكس الفوضويُّ سريعاً، اشتهى منذ أيّامٍ صحن مجدّرة مع مخلّل اللّفت لكنّها كانت منشغلة بإعداد الكبب والمحاشي وكأنّه مهاجر إلى بلادٍ لا طعام فيها ولا شراب.
كيف سيتدبّر أمره دوننا، أين سيعثر على مفاتيحه الضائعة دوماً، متى سيفلح في طيّ ملابسه بعد الغسيل، هل سيقوم بنفضها بقوّة قبل النّشر كما علّمته، هل سيصوّر لي تجربة طبخ الأرز وقلي البيض وتنظيف أسطح المطبخ؟ سيعتمد على الحواضر حتماً، هل سيتذكّر أن يفصل قابس المكواة قبل خروجه إلى الجامعة؟

يفتح باب شقّته الصغيرة الآن، ويحسب الفلس ويقدّر ما لم يفكّر بتقديره من قبل، يعلم أنّ اللعبة ابتدأت للتّو وأنّ مسرح العرائس أنهى مسرحيّته اللطيفة.

أتذكُرُ يا أبي كم منعتني من الخروج مع أصحابي في الثانويّة، أنا اليوم حرٌّ لن تعرف متى أخرج أو أعود، لن تستطيع تقييم من حولي وازعاجي بنظرتك الثاقبة، سأتعلم من كيسي وأحكّ جلدي بظفري وأضع نصائحك نصب العينين؛ كم وسعت حكمتك جهلي، كنت تعلم أنّي سأفتح هذا الباب يوماً دونما عودة.

بعيداً عن الأشواق والحبّ والوالدية، أعترف بأنّي كنت ضيفاً ثقيل الظلّ أحياناً ثمانية عشر عامٍ وأنّك أكرمتني وأحسنت الضيافة، وأنّ أمّي مثل كل الأمهات ليس كمثلها أمٌّ في عين أولادها، لكنّ موسم قطاف ثمرة تربيتكما قد حان، ودينكما لا يُردّ ما عشت بمثلِ أن أكون الولد الصالح الذي لطالما دعوتما به.

أحبّك أبي، أحبّك أباً أفخر به ما حييت، أحبّك رغم أنّك من جيلٍ لا يشبه جيلي، تتقلّد فكراً لا يشبه تفكيري؛ اعتدت قولها سنيناً للحنونة، لكنّ في نفسي حاجةً لإخبارك بها عند الوداع وإن كنت تعلمها علم اليقين.

تبكي أمّي بكاءً رقيقاً يشبه بكاءها منذ خمسةٍ وعشرين عامٍ حين افتقدت أهلها أوّل مرّة؛ أكملا معاً كلّ أحاديث الصباح التي كنت أقطعها لكما بلا قصدٍ أحياناً وبقصدٍ كثيراً، أعيدا الزّمان إلى الوراء، أحضر لها عند المساء وردةً وقطعة حلوى أو حتى كوب ماء، هوّن عليها وقل لها أنّ المسافر يعود مع شهادةٍ وعروسٍ وحفيدين يوماً ما؛ تلك سنّة الكون مذ قالت نسوة الحيّ لوالديها: «وَحْشَة الدايمة».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *