حلوى الجيلاتين

إذا كان لديك تسريب مياه في السقف، وقمت بإعادة طلائه عبثاً هل ستتخلّص من المشكلة؟ أم أنّه لا بدّ من علاجٍ جذريٍّ قبل ذلك؟
بلمح البصر سيعود الشكل الخارجي لنفس المظهر المزعج ما لم نعالج السبب أو نستبدله أو حتّى نتخلّص منه؛ ليست معلومة جديدة، الجديد أو لنقل المذهل أنّنا كثيراً ما نستسهلُ علاج القشور المؤقت، نتحمّل البقاء في ذات الدوّامة وقتاً أطول من ذلك الذي نحتاجه فعلياً للهدم والبناء، فنهدر طاقاتٍ أكثر على الإصلاح الشكليّ دوناً عن المضمون.

بعض الإصلاحات أيّاً كانت تحتاج جهداً ذاتيّاً إلى جانب الذكاء، قد تبدو صعوبة التعامل مع السقف كاستحالة تنظيف مقلاةٍ أصبحت سوداء الأطراف لاحتراق الزيت على حوافها  ولا بدّ من ذلك.
ستقولين لي: أجدّدها ولا أفعل، أقول: وأنا كذلك على الأرجح، وعلى كلتينا تقبّل هذيان أحدهم بأنّه لم تعد لديه أدنى رغبةٍ بتناول المقليّات كي يسحب نفسه بلطفٍ من المشاركة الالزاميّة بثمن واحدةٍ جديدة؛ ومن غير المقبول بلا شكّ اصرار أحدهم على استمرار استخدامها مُتعامياً عن أضرار ذلك المُسرطنة بحالتها تلك.

بعض المحطّات والعلاقات في حياتنا نستطيع تشبيهها بحوادث السيّارات، قد لا تكون الأضرار جسيمة، ربما نستغرق وقتاً للتراضي بعد الحادث، قد نضطرّ لحضور طرف ثالث للمساعدة والوصول لتسوية، ربّما نتنازل عن ماديّات معيّنة للمخالصة، ثمّ نمضي كما تمضي الحياة.

في عمرٍ مّا تعتريك رغبةٌ ملحّةٌ بأن يتحوّل نور هلالك إلى نور بدرٍ مكتمل، لا تدرك بعد أنّ لحظة الكمال التّي تمسي فيها كذلك تكون قد شارفت على النّهاية، وأنّ البدر سيصغر إلى هلالٍ متناقصٍ ثانيةً شيئاً فشيئاً.

ماذا تريد؟
لماذا تستمرّ في النّداء حدّ الازعاج؟ تحاول أن يسمع أحدهم الصّوت المبحوح الذي تملكه بلا جدوى.
تريد لفكرةٍ مّا أن تهدأ، أن تبدأ، أن تستقرّ، أن تعيش السّلام.

لماذا لا تستطيع المقاومة؟
المضيّ وحدك دون الالتفات الى أحد؟
لماذا تنام وتستيقظ وتحيا الحياة تفكّر بها؟
وكيف لك أن تترك فيها أثراً طيباً يجعلك لا تنفصل عنها وان انفصلت عنك؟

في لحظةٍ مّا تشعر بوعكةِ مشاعرٍ هلاميّةٍ تشبه اهتزاز حلوى الجيلاتين الحمراء، ترتجُّ نفسك بين ما هي عليه وبين ما تحبّ أن تكون عليه، تسعى كلّ يومٍ أن تكون أفضل، تشعر بشيءٍ من الضّغط ليس قليل، ذات السؤال يتكرّر ليلةً بعد ليلةٍ على الوسادة وأفراد العائلة نيام، هل كنتُ حقاً راعياً جيداً؟
هل ستدعو لي بالخير يوم أشدّ الرّحال عن هذا العمر هذه الرّعية؟

تتأمّلهم نياماً طفلاً وطفلةً كنتَ يوماً مّا مكانهم وكان أحدهم يتأمّلك كما تفعل، ربما لم يعد كذلك ولم يعودا أيضاً، لكنّك تحبّ أن تحتفظ بهذه الذكرى في زاويةٍ مّا من مخيّلتك؛ تتذكّر قَوْلَةَ الطبيب النّفسي أنّنا جميعاً نمتلك طفلاً مّا داخلنا، يعيش معنا ما عشنا، تستطيع أن تدرك أنّ فلاناً طفلٌ عاقل وفلاناً طفلٌ مشاغب وفلاناً طفلٌ مستهتر، فلانٌ طفلٌ مشرّد افتقدت طفولته لكثيرٍ من حنان، وفلانٌ طفلٌ مدلّلٌ حدّ الجهل بقيمة الأشياء، وفلانٌ طفلٌ عانى من التنمّر، وفلانْ طفلٌ لا تعرف من أي الأصناف كان، لكنّ الطّفل رغم كلّ الفرعنة الظّاهرة موجودٌ مخبوءٌ فيه بصمتٍ لا محالة.

أتأمّله، يزداد طوله ووزنه وكلامه، تتغيّر مقاسات ثيابه سريعاً، يتبدّل فكره وكذلك أحلامه، يسأل أسئلةً مزعجةً لا أعرف لبعضها اجابةً أو ربّما لا أعرف صياغةً لها بطريقة لبقةٍ مقنعةٍ تلائم مباغتة السؤال.

تركض أعمارنا من بين أيدينا، نتأمّل ساعات النّهار كيف تمضي، هل يتّسع العمر لإنجاز كلّ ما نريد؟
لماذا لم نعد نشعر بقيمة تلك المنجزات؟
لماذا كلّما أضفتَ مهمّةً ليوميّاتك شعرتَ بإمكانيّةِ زيادة المهمّات أكثر؟

ماذا لو أنّ منشوراتنا على هذه المنصات الاجتماعية كانت مدفوعة؟
أسيجرؤ الجميع على الكتابة ليل نهار؟
ماذا يعني محتوى؟
لماذا ومتى ولمن ننشر؟
نور تلتقط بعدستها صوراً جميلة وتمتّع أبصارنا بما يسمى بالتغذية البصرية، جنى ماهرةٌ في الطبخ وترتيب المنزل وتحبّ للجميع أن تتعلمن ما تتقن، مها محترفةٌ بالهوايات اليدويّة، ومَيس معلّمة تصحيح تلاوة عن بُعد ولها خبرةٌ في التّربية مفيدة، سلام قارئةٌ نهمةٌ تدوّن مراجعات الكتب التي تقرؤها وسارة اعلاميّةٌ تشاركنا أخبار العالم لنكون معاً بالصّورة لحظةً بلحظة لنتعايش معه بالدعاء والحزن والفرح.

ولكن..
ماذا عن شمّئرين؟
هل تذكرونها؟
لطالما ذُكرت في قصص الجدات وحكاياتهم؛ شخصٌ حقيقيٌّ خلف الكواليس لا تعرف له غايةً واضحة ولا تستطيع أن ترسم لشخصيّته ملامح، يقول عن مثله البشر: “مع الخيل يا شقرا”! ويصف حاله رب البشر: “وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ”.
كيف؟
تقرأ في أخبار  worldometers صباحاً أن عدد الوفيات لهذا العام حول العالم تجاوز ستة وثلاثين مليون نسمة، فتُعيد نشر ذلك دون تتمة القراءة لإتمام النشر، فيخيّم على القرّاء شعورٌ بالخوف والإحباط من الحروب والطاعون والحرائق، تنشر على عجلٍ فلا تكمل نشر إحصائيات الموقع نفسه أنّ عدد المواليد بالمقابل يكاد يصل إلى ستة وثمانين مليون طفل في ذات العام، أي ما يتجاوز الضعف بكثير مما يبعث البسمة والبهجة وينشر السرور.
من هي؟ لا نعلم فمثلها كُثُر.
شخصٌ بلا انتماء، لا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا ثبات له، كحلوى الجيلاتين تماماً، والكارثة، أنّ الجميع يرحّب به بل قد يحبّه! بما فيهم أنا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *