سَحَر

سَحَر

إنّها سحر تقول للحياة ها أنذا، تضحكُ فتضحك الأكوان، تحكي فيصمت انصاتاً لعذوبة كلماتها كلّ بيان.

وإنّها الغربة، ثانيةً وثالثةً وعاشرة.
ربما لم نصطفّ على طوابير الغاز والبنزين، والخبز والتموين، لكننا تجرعنا كثيراً من غُصصٍ وأكوامَ حنين.
لم نعرف بنفس المرارة معنى انخفاض العملة وارتفاع الأسعار، ولكننا عرفنا معنى ارتفاع الأرواح دون أن نقبّلها القبلة الأخيرة وانخفاض الضغط كمداً من ذلك.

هل تعرف ما معنى أن تولد مغترباً؟
أنت الحبيب الذي تُعَدُّ الدقائق والثواني ترقباً لعودته، يرجعُ، فلا يرتاح في نومته، لأنّه غيَّر وسادته!

من نحنُ يا سادة؟
هل نحن أعراف الأوطان الذين تساوت أشواقهم للعودة إليها مع استحالة ذلك؟!

هل تدركون وجع الوجع؟
أن تشتاق بصمت، أن تستنكر بسخرية، أن تستحي أن تقول لقد اشتقت إلى الشام، أن تغصّ ألف غصّةٍ وتتمنى ليلةً واحدةً تنام فيها بين ذراعي حلب.
من قال أن الشوق ينفي قهري وقهرك؟
وأنّ أخذ الصورة من زاويةٍ معيّنةٍ تعني أنّي لا أعلم، لا أحسّ، ولا أدعو كلّ ليلة: اللهم ردّنا اليها رداً جميلاً.
جميلةٌ بجمال أهلها، يملك الناس فيها بعزّة النفس تحدّي أحوالهم مهما جرى، ومهما كان.
أرأيتم في الكون مثل بلادي؟
أنا والله لم أرَ ولن أرَ يا شام.
بلادٌ تزرع الآس فوق المقابر، نساؤها الحور العين، وشبابها نفحٌ من الجنّة.
……
إنّها سَحَر، ذات الستة أعوام، بعيني ظبيةٍ وبسمةٍ تهزّ الكيان، وتتحدّى الغربة.
تختلس هاتف أمّها وترسل رسائل جميلةً لطيفةً للأصدقاء، تخبرهم أنّها تنتقل أخيراً إلى الرياض، ما أجمل نبرة الصوت، ما أنعمها وهي تقول: ” عم قول يمكن ها”، كم بدت كلمة “الأبد” وتفسيرها منها لهم جميلة، كيف أشرح لها أنّي أصبحت بمثل هذا العمر ولم أفهم ولم أجرب شيئاً إلى الأبد بعد.
حبيبةُ قلب الخالة، في صوتها لهفةُ من باعت جيرة بحر الدّمام ونوارسه مقابل ساعات المرح مع الأطفال.
تزورنا سحر، ويضجّ المنزل الجميلُ بالحياة حياة.
تبتسم ابتسامةً تروي الظمآن، وتردّ الضائع إلى الأحضان.
أسمعها تسرّ الصّغار ببعض أحزان الأطفال: “أنا، ستّي راحت عالجنّة”، وتسبل الرمشينِ شوقاً للجدة الراحلة.
يقول لها أحمد<<احدى عشر عام>>: لم تصل إلى الجنّة بعد يا “سحّورة”، أنا أعلم، حتّى “جدو” الآن بمكان اسمه: البرزخ، هي حياةٌ بين هذه الحياة وبين الجنّة.
ويقول لها عمر وجود<<سبعة أعوام>>: الله يرحمها.
ونقول جميعاً: الله يرحمها.
وأرجو من كلّ قارئٍ أن يدعو لها أيضاً.

هذه سحر،
حفيدة الخالة سحر،
تخبرنا أن الحياة ستستمرّ،
وأن الصّغار أجمل ما في هذه الرحلة،
وأنّ الغربة كانت وستكون لتكفير الخطايا،
وأنه بالامكان تجاوزها بضحكاتهم وآمالهم وكلماتهم الجميلة.

أيّ طفولةٍ هذه التي كانوا يتحدّثون فيها عن الموت والجنة والبرزخ أثناء تناول وجبة الغداء؟
هؤلاء غيضٌ من فيض أطفال بلادي.
هُم نور الحياة، بهم نستقيم، ومن عمق كلماتهم نستلهم الثبات واليقين، لنحيى الحياة برضاً وسلام.

السلام على الوطن،
يعود الطفل يوماً مّا، تضحك له البساتين، وتغني له عرائش العنب وشتلات الياسمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *