رسالة إلى البرزخ

كيف حالك؟

أعرف أنك لا تردّ، لا تعلّق، وأنا لا أستطيع التواصل معك إلا بطريقتين لا ثالث لهما، الذكرى والدعاء.

أفتقدك اليوم فقداً هائلاً هادئاً جميلاً مثلك، نجتمع لأوّل مرّة بعدك، جرت العادة أن نسأل عن الغائب والمسافر والمتأخّر، لكن أحداً لم يسأل عن سبب اعتذارك أو عدم حضورك.

استودعتك رب العالمين وعنده لا تضيع الودائع.

أتمنى كالعادة، وبعض التمني حماقة، أن يصف لي ثقةٌ متجراً لبيع القلوب، استبدالها، إصلاحها، أيّ شيء من الممكن أن يساعدني كي أتجاوز بثباتٍ وقوةٍ هذه المرحلة في الحياة.

لقد طار قلبي عند سور المقبرة، لا أنا قادرة على الإمساك به واعادته بين أضلعي، ولا على تجاوزه وتركه شريداً والسّعي فيها بلا قلبٍ يخفق.

لماذا غربتمونا؟

لماذا عشنا من كل شعورٍ نصفه؟

لماذا مضت حياتكم وتمضي حياتنا ببعضٍ من شوقٍ دفين؟

لماذا أجدني في هذا العمر عالقةً في كل المُنتصفات مرّةً واحدة!

افتقدتك الليلة، بسمتك، لطفك، حنّيتك، حكاياك، جمالك، تعليمك، رسائلك وصوتك، سردك للتفاصيل، همسك للأسرار، وتوجيهك للكبار قبل الصغار.

نفسُ مُقاطعة العبارات تتكررّ، كم فاتك من ارتفاع الضحكات، وسرد تفاصيل الحكايات، نفس ضجيج المجالس على حاله كما تركته.

تمنيت أن أستطيع تجاوز الفقد أسرع من ذلك، لم أفلح، ولم أنجح، ولا أنجح.

لم يدرك أحدٌ سبب تأخري في العودة إلى المنزل مساءً، كنت بحاجةٍ ماسّةٍ للهرب من نفسي إلى نفسي قليلاً، ساعدني مشهد حُمرة السماء ساعة الغروب أن أسكب دمع الفقد إلى الداخل سكباً مريراً، وساعدني القلم بأن أبدو قويةً رصينة، جبلاً لا تهزّ ثباته ألف ريح عاتية.

لو أني ذكرت اسمك لنتذكرك بدعوةٍ “ولا ننسى” قد أشهقُ بكاءً ونتعكّر.

نحن لا ننضجُ ولا نكبرُ في الجزئية المتعلّقة بالتعوّد على فقد من نحب، المرتبطة بموتهم.

كان الناس يموتون أكبر من هذه الأعمار بكثير في طفولتنا؟! أذكر أنّني يوماً قابلتُ فتاةً تزور جدّة جدّتها.

إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن، بتسارع موعد وفاتنا أصغر فأصغر، وقِصَر أعمارنا أكثر فأكثر، فأحسن الظنّ أنّ رحيلي لا يتأخر عن رحيلك كثيراً.

ربّما يشملني لطفُ وعد الأب الحنون للإبنة: “أنتِ أول أهل بيتي لحوقا بي”.

الجميع بخير وصحة جيدة، قالوا بأني أشبه ابنتي كثيرا هذه الأيام، لكنني أراني بعض الشيء أجمل، مشاغبةٌ بعض الشيء كما عهدتني لم أتغير.

يعاني العالم من فيروس مزعج منذ عام، ربّما نقل لك الزوار بعض الأخبار، لا ندري ما هيّة نهاية هذه الأحوال، هل توجد نهاية أصلاً؟

لم يتزوج أحد بعد، ولم ينجب أحد، ولا أحصي لك عدًا لمن تطلّق.

ما زالت المدارس عن بُعد، ومازال المغتربون يهاجرون يوماً بعد يوم، ينتقلون من غربةٍ إلى غربة، نحن في مرحلة شللٍ اجتماعي كاملة، يمنعوننا من اللمس والمصافحة والعناق والسفر واللقاء، حجبوا بسماتنا بكمامة زرقاء، كتلك التي حالوا بها فيما بيننا آخر أيامك أيضا، ولا أريد أن أتذكّر.

يا عطر عمري، أسأل الله أنك بخيرٍ، أسأله أن يستجيب دعائنا المتصل لك ليل نهار وأن يجعل لك نوراً وكرماً.

لقد اشتد عود شجرة الليمون وراح الأحفاد يقطفون ثمارها الصفراء الزكيّة عاماً بعد عام، مع كلّ ضحكةٍ أتخيلُ اللقاء الأجمل في الجنة يا بابا، كم اشتقنا قَولةَ بابا.

يبدو أن الأحفاد يكبرون كل ساعة، ويزداد طولهم سريعاً، لقد اعتدت أخيراً مناداتي <<عمّة وخالة>> حتى كدت أنسى اسمي، أشعر أني أكبر معهم كل عامٍ عامين أو ثلاثة، لقد بدأ النصف الثاني من عمري يهرول هرولةً مُربكةً دونما استئذان.

أسأل الله لك نوراً وعفواً وعافيةً وأُنساً وغفراناً، أكرمك الله كما أكرمتنا فأحسنت اكرامنا.

=انتظري يا ابنتي! ماذا عن العشاء؟

= كان لذيذاً جداً، أبهرتنا وأشبعتنا أمي كالعادة، لم ينقصنا إلا أنت، موعدنا الجنة، واللهِ أنّي ما عرفتُ سلوةً للشّوق مثل الدّعاء، فكن بخير أبي.

فكرتين عن“رسالة إلى البرزخ”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *