جُمعة

رسالة الجمعة الأجمل:
أعلمُ أنّها البداية، وأعلمُ أنّكِ لا ترسمين النّهايات، إلاّ تلك التي على هواك.
قلبي معك منذ البداية، وسيكون هناك عند النهاية التي ترغبين.
أصرُّ لك على مجدٍ يليقُ بمن تُجيد ربط البدايات بالنهايات، جداً.

إنّها الجمعة ثانيةً وثالثةً وعاشرةً ومائة،
أجمل ما فيها ذلك النور نملؤ صدورنا به من سورة الكهفِ أسبوعاً بعد أسبوع.
نسأل الرحمن أن تنتهي الجمعات الجميلة بنا إلى جمعةٍ نلتقي بها الأحباب في الجنّة، تلك جمعةٌ لا جمعةَ مثلها ولا هجرة ولا إغتراب بعدها.
اللهم جنتك التي وعدت، اللهم إنها الحلم العريض، والشوق الكبير، اللهم ردّنا إليها غير خزايا ولا مفتونين؛ ربّنا إنّنا نشتاق رؤية الجميلة التي قرأناها في كتابك فأكرمنا أن نكون من أهلها يا رب العالمين.

<<الجمعة الأُمهاتيّة>>
أرجو أنكنّ فهمتن المقصود، بغضّ النظر عن أنّها لا تمتُّ للعربيّة بصلة، أظنّ أنّها عاميةٌ جداً تلبسُ حلّة الفصحى فصحنةً لا أكثر.
إضحكن، والله هذا ما أريد أن أختم يومي به، ضحكةٌ تجمع الشرق بالغرب، ضحكةً أضحكتني إياها صديقتي من بغداد، وضحكةً أضحكتُها لصديقتي بالقاهرة، وضحكةً ضحكتها بيروت للرياض، لأن الصديقات لم يجمعهن في زمن الحجر والحظر إلاّ ماسنجرٌ فيسبوكّيٌ بنفسجيٌ روّحَ عن القلب الكثير والكثير، بالصوتِ مُسجلاً والصورةِ مُرسلةً والكلمةِ مكتوبةً والفيديو مرئياً، والستيكرِ مُلصقاً معبّراً لا يقلُّ أهميّةً عن كلِّ ما سبق.

الجمعة،
اليوم الذي أغلّق فيه الأبواب بيني وبين أجهزتي حرصاً أن لا يتزحلق على جداري الأزرق منشورٌ صاخبٌ لا تُحمدُ عقباه؛ أحياناً أبدو غاضبةً غضب الأمّ لا تفهم السِّحر الذي يملؤ سلّة الغسيل لِيَنبع منها وحولها بلا توقف! ليتها كانت بئر نفط، ليتها؛ وأحياناً أبدو ضاحكةً ضحكاً لا مُبالٍ لا يفسّر، ومهامّ التّنظيف تتفجّرُ تفجيراً أمام ناظريّ، نفسُ المسلسل يتكرّرُ بحلقاته المُتّصلة دوريّاً، التكنيسُ يتطلّب رفع السّجاد ووسادات الأريكة، رفع السجاد يعني إراقة المياه على السيراميك شبراً بشبر؛ تتفهّم بناتُ بلدي عشق أمّهاتنا لجزئيّة المياه المتدفّقةِ على البلاط الرخاميّ، إنها مرتبطة بالبرّ والسعادة وعمق الرابطة بين الأم والإبنة إرتباطاً وثيقاً عجيباً، نحنُ منذ الطفولة قادراتٌ على حلّ أعتى المشاكل بيننا وبين أمّهاتنا بسطل ماءٍ مُراقٍ على الأرضية فجأةً بشجاعة، بعض الأمهات لا تحببن ذلك فحسب، تعشقنه عشقاً ويحسِّن كثيراً في نفسياتهنّ، البسمة التي ترسمها رائحة سائل التنظيف بالمنزل على شفاههنّ لم تحلم بها الموناليزا بجلالة قدرها، والله لا أمزح، لا أعرف السرّ في إتفاق نسوة الشهباء أن صوت ماكينة الكبة(1) هو الأفضل على الإطلاق، وأنَّ الأراضي البرّاقة أفضل من أيّ هديّة آخر بلا شك. الهوس بالنظافة جزءٌ لا يتجزّأ من حياتنا، تحتسبُ الأمهات العاملات من صحّتها النّفسيّة ذلك الهوس الذي جُبلنا على تمجيده ولا أشرح.

الجمعة،
الشّوقُ إلى الشآم والأحباب، إلى ذكريات بيت الجدّ ولمّة العائلة من الزمن الذي مضى، إلى الشاي الحلو المخمّر، إلى رائحة خبز التنّور، وإلى العمّ الأشقر حوّلت طبيعة العمل بياضه اسمراراً والحمدُ لله أنها لم تتمكن من تغيير لون عينيه بعد، رزقه الله ورزق المسلمين أجمعين.

فطور الجمعة، الفطور الأجمل في أيّام الأسبوع، فطور الحواضر التقليدي، بكاسات الشاي الصغيرة جداً لا نستخدمها إلا فيه، نحبّهُ بأطباقٍ عشوائيّةٍ مختلفةِ الأحجام والألوان، فتنتهُ بهذه التشكيلة، نحبّه كلّما صغرت الأطباق وقلّت محتوياتها، تبدو لنا شهيّةً أكثر، فكرةُ أن تسأل أحداً إن كانت بخاطره اللقمةُ الأخيرة قصّة وحكاية، فجميعنا نملك في عوائلنا ذلك الشخص المضحك الذي يغصُّ ويشرق وبالعاميّة “يتشردق” إن لم يأكل الأخيرة من كل الصحون، تعوّدنا أن نخبّئها له درءً للمفاسد وحفاظاً على صحته النّفسية وصحّتنا.

مراجعة الحسابات وتصفيتها نهاية الأسبوع تبدو رائعة، نحن نرتاحُ كثيراً حين نشبع من وجوه أُسرنا ونطرب لضحكاتهم فيها، الركض والروتين من الأحد حتى الخميس يكاد يفقدنا كثيراً من إنسانيتنا ومشاعرنا، نحتاج أن نتعافى بالجلوس إليهم والتنزّه معهم والإستماع والإستمتاع إليهم تعويضاً عن الأيام التي قد يسرقنا النوم فيها منهم تعباً قبل أن نقول: تصبح على خير.

مرّ أمام عينيّ اليوم مشهدٌ لطيفٌ أحببته.

الطفلُ ذو الخمس سنوات يلعب مع والده، يقول: بابا، انظر لعينيّ دون أن ترمش، الذي لا يرمش يفوز.
يتبادلان النظرات، بفاصل ثلاثين عامٍ ومسافة شبرٍ يستنشقُ فيها الصّغيرُ أنفاسَ أبيه.
يقول: بابا لحظة!
وينادي: نانا (2)، ما لون عينيّ أبي؟
تجيب الجدّة: أزرق جميل، مثل لون البحر.
أبتسم، وأُسرُّها في نفسي: بيت فستق (3).
الطفل كان يحاول الفوز على والده، لكنّ دفء المحبة أربكه ولم يستطع النظر طويلاً في عينيه دونما رَمش.
يقول له والده: يجب أن تركّز جيداً كي لا ترمش، يجب أن تفتح عينيك جيداً كي تركّز.

وأُسرّها في نفسي ثانيةً يا صاحب الظلّ الطويل:
ليتنا نستطيع أن نفتح عيوننا جيداً كي نركّز، نحنُ نرمشُ كثيراً أحياناً، ليس مهماً أنّنا لم نركّز للحظة، المهم من يفوز نهايةً، وعادةً، يفوز الصغير.

جمعاتكم مباركة، ودمتم بخير.

==========

هامش :
(1) الكبّة: أتمنّى أن لا تضطرني لشرح معناها لك، لأنّها شامة شآمنا، يمكن لملوك الممالك ورؤساء الدول شرح الغرام بها، بإمكان العم قوقل أن يريك صورتها، ولا أضمن لك طعمها في أيّ مطعم بالكون، فهناك نكهة خاصة تحتكرها الأمهات في صناعتها المنزليّة فقط، تتذوقها في منازلنا على موائدنا ضيفاً كريم.
(2) نانا: تعني جدتي، مثل: تيتة وَ ميمةَ وَ الحبّابة.
(3) بيت فستق: تقال للعائلة التي تغازل بعضها بعضاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *