جوجو

مساء الخير يا “جوجو”

مساء المسك والعنبر

مساءٌ كُلُّه ألقٌ

بطفلٍ مسلمٍ يُزهر

الخامس من رمضان، السادسة مساءاً، رائحة البيت تبدو ساحرةً جداً، هذه المرّة ليس عطراً ولا عوداً من مبخرة، إنّها القدور في المطبخ تغلي، تنبعث منها الرّوائح طيّبةً زكيّةً شهيّةً تكاد تذهب بالألباب لمن صام صيام القيام لا صيام النّيام ولا أشرح، ففي فهمكم كفاية يا قوم.

باقي من الزّمن عشرون دقيقة، مازال صوت آلة الخياطة سيّد اللحظة، الجدّة تخيط شالات الصّلاة لمن تحبّ، جعل الله لها بها أجراً.

هذه العشرون الأطول باليوم بلا شك، كسائر النّهايات في حياتنا، وصدق من قال: إنّ الخيل إذا قاربت الوصول جدّت بالمسير، فجُدّ السّير فالأعمال بالخواتيم.

يتوقّف صوت الآلة للحظة، وتنادي الجميلة: <<دعوا كلّ شيءٍ من أيديكم، أبواب السماء الآن مفتوحة، والدعوات بإذن الرحمن مستجابة>>، ونحن لا نترك شيئاً كالعادة، ونتّكل على دعائها لنا أكثر من دعائنا لأنفسنا، عشم كلّ ابن بدعاء أمّه، ومن مثل أمّي وأمّك؟

دُقّ الجرس وفُتح الباب، إنهما الحفيدان الأجمل، محمّلين ببالونين وباقةٍ من الورد الجوريّ، ويركضان إلى العمّة قائلين: <<لقد صمنا اليوم>>.

ما أجملهما بسنواتهما السبع، يحاولان من أوّل يوم أن يصوما معنا، يوماً صيام عصافير ويوماً صيام مأذنة، إلى أن تفوّقا على نفسيهما أخيراً وصاما تمام الصيام لم يأمرهما به أحد، لكنّها سنّة الكون أنّ كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، فالحمد لله دائماً وأبداً.

يؤذّن المؤذّن، ويصيح العميد كعادته منذ أعوام: <<أذّن يمّة أذّن>>، توزّع التّمرات وما هي إلا دقائق معدودة وتقام صلاة المغرب جماعةً في بيت العائلة الجليل، يركض الطفلان ثانيةً للصلاة معنا، أسمعها في التّشهّد الأخير هامسةً: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله.

أسلّم من صلاتي وأفتح ذراعيّ للصغيرة، أقبّلها قبلةً طويلةً طويلة، أقول: لو أنّ جدّك سمعك تقولين الشّهادتين مثلي، وتقول جدّتها: لو أنّه رآها تصلّي وتصوم، ويقول الرحمن في كتابه منذ ألفٍ وأربعمائة عام وأكثر: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ” (سورة الطور: الآية 21). اللهم جنّتك التي وعدت.

ساعةٌ وتُكبّر المساجد نداءاً لصلاة التّراويح، ويركض الحفيدان ثالثةً: <<نريد أن نصلّيها معكم في المسجد اليوم>>.

تذهب جوجو بثوب الصّلاة إلى الجامع، ويحمل عمّورة قارورة الماء ويسير يسارها وكأنّه الإمام؛ تقفُ جواري، وفي قلبي رجفةٌ وتأمّل: هل تُراني كبرت إلى الحدّ الذي صار فيه الصّغار يصطفّون إلى يميني في الصّلوات بعد عمرٍ هنيءٍ كنت أنا من تصطفُّ فيه يمين جدّتي والخالات؟ هل بدأ العمر يتفلّتُ من بين أيدينا هرولةً وركضاً ونحن لا نشعر؟

تصلّي جود ببساطة الأطفال، بخصلات شعرها تظهر من طرف الحجاب على صفحة وجهها الوضّاءة، بطلاء أظافرها الطفوليّ الصغيرة جداً، بأطراف أصابع قدميها تظهر من تحت التنّورة، بالطّهر يطوّق رسغيها ترفعها: الله أكبر، نوراً سرّياً يرتحل إلى الجنّات، طفلاً لم يعرف بعد سرّ الحياة، أسمعها في السّجدة تتنهّد، لم تتأفف، لم تتململ، لم تُبدِ استغراباً، ولم تقل: كأنني أتعب، ولم تسأل عمتها: متى إلى البيت نرجع؟

فكان لها من قلب العمّة كلّ دعاء، وعناقٌ بعد الصّلاة، وكيسٌ من حلوى، وكثيرُ من شوكولا.

وصن ضحكة الأطـفال يا رب إنها

إذا غردت في موحش الرمل أعشبا

بقيَ أن أقول:

الصوم جُنّةٌ لأنّه من العبادات العظيمة التي ينضج معها فهمنا لصميمها عاماً بعد عام، وتُصقل تأديتنا وادراكنا لأبعادها ما كبرنا. حين كنا صغاراً بدا الصوم تحدّياً للذّات واللّذات، في امساكنا عن الطّعام والشراب لنشعر أنّنا كالكبار ليس أكثر، كبرنا قليلاً، فأدركنا أنّه أعمقُ بكثيرٍ من قرصة جوعٍ أو غضّ طرفٍ عن شهوةٍ أياً كانت تكن.

أن تصوم الصيام الذي يجزي الرحمن به، يعني أن تتجاوز ضيق بوتقة صيام الجسد إلى سعة أفق صيام النفس الأمارة بالسوء والناهية عن الهوى سويّةً، وأن تستطيع التوازن في الحياة ومتابعة مِثل ذلك الصيام حتّى وإن انتهى موسمه المرتبط ارتباطاً وثيقاً برمضان.
المسلم الحقُّ في حال صيامٍ وجهادٍ ما دامت له الحياة حتى يلقى الله بقلبٍ سليم.

حفظ الله ذرّياتنا أجمعين.

رمضان 2021

تأملات في صيام الصّغار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *