ست كلمات

تأمّلتُ عينيها مليًا، يليق بها مسمّاها الوظيفي، لاق أكثر حين قرأتُ اسمها الثلاثي، طبيبةٌ ابنة طبيب، همستُ لنفسي أوبّخها بقسوة: فَعَلَتْ ما لم تستطيعي فعله يا فلانة ابنة فلان.
وجهٌ سمحٌ وبسمةٌ متألّقةٌ وعاطفةٌ دفّاقة: هاتِ ما عندكِ؟ قالتها بنبرةٍ دافئةٍ المُعالجة.
قصصتُ عليها في تلك الجلسة كلّ الحكايا، بُحتُ بالظلم والظلمات دُفعةً واحدةً وكأنّي سجّانٌ تَعِبٌ أراد إطلاق المساجين في وضح النهار كلّهم جميعًا دون سابق تخطيطٍ ودونما تفكيرٍ بالعاقبة، كُنتُ ممتنّةً لتلك الزيارة والاستشارة، للكرسيّ المُريح، لمُلطّف الجوّ، لأشعّة الشمس تتسلّل إلى روحي من النافذة، لصندوق المناديل المعطّرة، للألوان الهادئة الزاهية المريحة، للأمان وللهدوء بلا سبب محدّد، ولورقة النعناع في كأس الشاي التي هدّأت من روعي حين ظننت ألّا مُسكّن بعد كلّ ما مرّ في هذا العمر يُسكّنه.
وعدَتني أنّ كلّ شيءٍ سيكون على ما يُرام، عاتبتني بلطفٍ لأنّي تأخرتُ بطبابة نفسي بعض الشيء، أخبرتني أنّ بعض الصبر لا جدوى منه، وأنّ أتعسه ذلك الذي يشقّ النفس شقًا بلا معنىً في حين لا إلزام لها به.
حدّدنا تاريخ موعدٍ تالي، منذ زمنٍ بعيدٍ لم تتورّد وجنتاي كما الساعة، لم أجد تعبيرًا يصف راحتي أبلغ من ابتسامة، ربما لم أتبسّم بسمةً مطمئنّةً منذ سنين، أهديتها أغلى ما وُفّقتُ لهُ لحظتها.
رغم كلّ ما استَمَعَت إليه بادرتني حين هممتُ بالمغادرة بالسؤال والاطمئنان إن كان ثمّة ما أرغب بالتخفّف منه أيضًا اليوم.
لم أخبرها أنّ ذلك المرض تفشّى في جسدي منذ أسابيع والأمر لله من قبل ومن بعد، لم أخبرها أنّ هذا اللقاء هو الأول والأخير غالبًا، لم أخبرها أنّها لم تكن مُخيفةً كما توهّمتُ وأنّها كانت مَلَكًا حقيقيًا على هيئة بشر.
حين عدتُ إلى ذلك القبر الموحش المسمّى بيتًا بحثتُ على عجلٍ عن ورقةٍ وقلم، لم يفت الأوان بعد، أريد أن أكتب شيئًا ما قبل المغادرة الحقيقية.
كتبت، ثمّ خبّأتُ كتابتي في ظرفٍ تحت الوسادة في تلك الليلة القصيرة، الليلة الأخيرة التي سبقت نومتي الطويلة وغيابي عن الوعي أسبوعين تامّين قبيل رحيلي إلى حيث الكل يرحل.
***
في بيتٍ باردٍ كئيبٍ لم يُعرف فيه معنىً للحب يومًا احتاجت حفيدةٌ ورقةً كي ترسم أثناء انشغال الكبار عنها بمراسم الدفن والعزاء، وجدت تحت وسادة الجدّة المتوفّاة ظرفًا بجعبته ورقة، أخذتها، رسمت على ظهرها في زاوية نجمةً وحيدةً حزينةً وفي الزاوية المقابلة كانت تجتمع عشرات النجمات معًا مبتسمات.
كُتِب على صدر الورقة ستُّ كلمات: العلاج النفسي للعقلاء، الطب النفسي حياة.
تأمّلت الصغيرة رسمها لساعات وساعات، تألّمت لأنّ بعض عادات الكبار في ذاكرة الصغار تشبه أشدّ العداوات.
كما العادة ركضت طفلةٌ إلى والدتها آخر اليوم بحماسةٍ تحمل رسمًا يحكي قصّة تنمّر تلكم النجمات، وكالعادة أيضًا دون أن تنظر إليها الوالدة ودون أن تنظر إليه، لم تُلقِ لأحدهما بالًا، ولا للستّ كلمات، وقامت بإلقاءه في سلّة المهملات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *