أمانة

في تلكم السنوات التي لم تكن سريعة العبور بلا شك، كنت أحسبني دومًا وكأنّني أركض في صحراء شاسعة، أمٌ تركض حافية القدمين فوق الكتفين تحمل قلبين، تركض دونما توقّف وتهمس لنفسها بينها وبين نفسها بين حينٍ وآخر: مُطرنا بفضل الله ورحمته، تلتفت لفتةً خاطفةً كلّما ابتعدت عن تلك الزوبعة أكثر لتتأكد من أنّ شيئًا لم يلحق بهم وأنّ أذىً أيًا كان مهما كان لن يؤذيهم.
أثناء ماراثون الركض لم تأبه بخَدَر ِالذراعَيْن ولا بحروق الكعبَيْن، ثمّة سلام، ثمّة نورٌ حفّ الطريق بأكمله، طريق اليقين العميق بِ: ” حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ “. لم تفكر إلا بشيءٍ واحد: سنستطيع، الله معنا، الله يسمع ويرى، “احفظ الله يحفظك”، الحفيظ سيحفظنا بحفظه ما حفظناه جميعنا.
على المربّي أن يُدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه بأن يكون راعيًا جيدًا، وأن يكون أهلًا لحمل الأمانة، أن يدرك كلّ صبحٍ أن السنوات تمرّ مرّ السحاب وهذا الطفل عمّا قريبٍ يصير سن الرشد ومن ثمّ قد تَخفّ شيئًا فشيئًا المسؤوليات ولا ضامن لذلك.
ليس مرور السحاب حدثًا عاديًا، المطر عند البعض كارثةٌ والبعض يصلّي لأجله صلاة استسقاء، بعض الأحاسيس الشائكة ليست سحابة عابرةً في الحياة، الجميع بلا استثناءٍ سيبكي جماعةً وأشتاتًا بوحًا ما، كلٌّ وما علق بذاكرته.
ماذا يوجد في ذاكرة ذلك الطفل؟ تلك الطفلة؟ رغم أنّ المظهر الخارجي العام يوحي بحدائق ذات بهجة إلا أنّ لحظات التوتر أو الغضب تعبّر عن أشياء لا نعرف تمامًا إن كانت عاديةً في حياة الجميع أم أنها تنمّ عن ندبات في النفس لا بد أن تُبلسم بلطف كي لا تكبر بعد اليوم أكثر وكي نؤهّل رعاةً صالحين ومصلحين مستقبلًا بإذن الله أيًا كان الذي مسّ حرم الطفولة.
يومًا عن يومٍ ينضج القلبان، يكبران وتكبر صاحبة الأكتاف الكليلة، آن الأوان لارتداء خفّين ومساعدتهما كي يسيرا مستقلّين دون حملهما أكثر، لا بدّ من واحة نرتاح عندها هنيهةً لنطمئن ونمضي من تيك الحياة إلى تلك الحياة على بصيرة بأنفسنا أفضل.

29-11-2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *