ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ *

تدور بين المعلّمات في مناوبة آخر النهار الدراسيّ أحاديث شتّى، بعضها يستقرّ في الذاكرة والبعض يتلاشى في لحظته.
إنّه آخر الشهر، اليوم الموعود الذي نستلم فيه مكافآتنا الشهريّة ليبدأ معه مباشرةً سداد الديون، كانت ريم تُقرض الجميع ولا تقترض منهن، منظّمةٌ مميّزة إذا تحدّثت استمعت لحكمتها المعلّمات وأنصتت باستمتاعٍ الطالبات.
تتجه نحوها على استحياءٍ ريف، تقول: جزاك الله خيرًا، وتناولها بظرفٍ أبيض بعض نقود، تعدّهم ريم، ثمّ تبتسم وتسألها مُطالبةً بحزم: وين النُّص؟
تضحك ريف ضحكةً خفيفة متعجّبة: مِنْ صِدْقِكْ؟ النُّص؟
تتألّق عينا ريم بلمعةٍ واثقةٍ وتقول بلهجةٍ صارمة: إي.. النُّص؟ أبي النُّص؟ نُص على نُص: ريال، وريال على ريال: مليون ريال، المليون ريال يا ريف مليونين نُص، جيبي النُّص، ترى النُّص ما يقلّ أهميّة عن باقي المبلغ، مثل ما سداد الدين عندك مهم، سداد النُّص مع المبلغ عندي أهمّ.

ريم أنيقةٌ تهتمّ بالنوعيّات، ربّما لن تعرف أن تشرح درسًا كما ينبغي إن انتبهت أنّ إحدانا قد جدّدت حقيبتها أو حذائها قبل أن تسترق لحظاتٍ لتسأل: من أين اشتريته وكم كلّفك؟
سخيّةٌ ودودةٌ عصاميةٌ أغناها الله من فضله الواسع العظيم، حاملةُ مسكٍ لها في كلّ كلمةٍ احتسابٍ وفي كلِّ موقفٍ رسالة.
لم تكن بحاجة النصف، كانت بحاجة أن تلقّن تلكنّ اللّاتي تقترضن لابتياع وجبات الفطور يوميًا درسًا في إدارة المال مهما قلّ؛ بارك الله القليل.

كلّما سأل زبرجد بلسم: كيف حالك؟ أجابته: الحمد لله بِنِعَمٍ من الله. نِعَمٌ لا نحصيها عددًا ولا نفيها حمدًا ما حمدناه أبدًا.

منذ أسابيع وأنا أتأمّل رُبْعَ ريالٍ سقط من أحدهم سهوًا على قارعة الطريق لا يأبه به أحد، كلّما لمحته تردّد صدى كلماتها حولي: نُص على نُص: ريال، ريال على ريال: مليون ريال.

يشتري ربع الريال هذا رغيف خبز، في حارتنا جارٌ ينثر للطير ما تبقّى من رغيفه صباح كلّ يومٍ كما يتصدّقُ على سكّان الحيّ بالبسمات، وفي نفس الحارة جارٌ يذهلني كلّما تناثرت الفاكهة الذابلة بعض الشيء من أكياس مهملاته وكأن لا حكمة لديه لحفظ النعمة قبل زوالها.

هل نُبتلى بجهالة تدبير النعم قبل حرمانها؟
في داخلي أمٌّ مغاضبةٌ تودُّ أن تقرع جرس الباب لتخبرهم أن عصر هذه الفاكهة لن يستغرق وقتًا يُذكرُ حاليًّا ولكنّ نزعها من بعد اتيانٍ سيُغرق بالندم أرواحًا بأكملها لاحقًا، وددتُ لو كان الفاروق رضي الله عنه وأرضاه جارنا أو كنّا جيرانه، ووددتُ أن يُسائلهم ثانيةً: أَوَكُلّما اشتهيت اشتريت؟

*سورة التكاثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *