عجب

لمّا كنّا صغار، غلّبت أهلي كتير، كانت الأسئلة سيل جاري، ليش تيتة هيّ اللي بتجي ونحن ما منروح؟
ليش بنسمع عن القرايبين ومنشوف صورن وبتوصلنا المكاتيب ومنبعتلن الهدايا بس بدون شوف! بدون حضن؟ بدون ما تفهم شو يعني ضجّة العيلة، وخناقات العيلة، وركازة العيلة، وجنون العيلة، ولمّة العيلة، وعزوة العيلة، وقوّة العيلة.

كنت أكبر وفي شي جوّاتي مقهور، بدّي أشوف البيت اللي انولد فيه أبي، بدي أزور القرايبين اللي بتحكيلنا أساميّن بالحكايات قبل ما ننام إمّي..
بدّي أشوف مشان أقرّر، مين اللي ححبّا أكتر، حطلع حلبيّة عإمّي ولا شاميّة عأبي، يا شهباء يا فيحاء، بين البينين ما عم تزبط معي، بدّي أحسّ بهاد الشي اللي بيحسه بابا لمّا ياكل من البرازق اللي بعتا جدّو، بدّي أفهم سرّ الابتسامة اللي بترتسم على وش إمي لما بتفتح علبة الرّاحة اللي بعتتا نانا وتدندنلنا: فستق حلب.. فستق حلب..

كان بدّي أشياء كتيرة، كنت أكبر ويكبر الوجع، كنت أضطر أحكي بلهجة غير لهجتي بالصف لأنّي انولدت بمكان بعيد، لأنه ما حدا خبّر الأهالي إنّه مواليد الغربة من لحظة الميلاد بتطير أرواحن لتكبر بأرض ديار بيت الجد والتيتة مع بقيّة ولاد العيلة.

ما بين أوّل مرّة شفت فيّا الشام وآخر مرّة ودّعت فيّا حلب، حسيت بشي ما أظن بقيّة عمري كلّه أحسه، هاد هوّ الحنين اللي ورّثونا ياه أهالينا وراثة لكان، هاد هوّ الحبّ، هاد المكان هوّ اللي حكت عنّه المعلمة انه اسمه وطن، هاد المكان اللي هوّ بالأصل مكاني، يا الله هون كلّن بيحكوا متلنا وبيلبسوا متلنا وبيحبّوا متلنا، هون أنا وأنا من هون وبس، هداك الدّرس أنا كنت غريبة، لا العلم علمي، ولا النشيد نشيدي، ولا مواضيع التعبير بتشبه تعبيري، كان في شي.. مشتاق لشي.. ما بيعرفه.. وما عارف يتعرّف عليه.

كبرنا أكتر، قام صار اللي صار، وصارت الغربة من بعد النقمة نعمة! وصرنا أكتريّة، بس ضل في شي جوّا إلي، في شي جوّا أنا، في شي هنيك ما عم يفارقني، ولا حأفارقه.

بتعرف شو..
أنا آسفة من أهلي كتير، أنا هلأ مستوعبة شو يعني أسئلة الصغار، شو يعني يخرمش روحك سؤال، شو يعني تكون سايق سيارتك بإجازة صغيرة ويقلّك الصغير: شو يعني حدود؟ شو هي اللّوحة الزرقا؟ والله شكلنا قرّبنا، الله يوفقك خدينا بس شوي، والله ما منتأخر، خلّينا ندخل مرّة، بس مرّة، نحن كمان.. بدنا نشوف، والله منرجع قبل ما تعتّم العين، والله ما منحكي لحدا، والله والله بيتمّ سرّ.

مرّة!
كان نفسي أشرحلن إنّه ما في شي إسمه مرّة، بس ما قدرت، كان نفسي أقلّن إنه في مرّات بحياتنا بيصير بدنا بعدا أكتر وأكتر.. فمن الأوّل الواحد يكون قد حمل المرّة الأولى.

هداك الطلب هدّ روحي هدّ، وهداك اليوم ما بحسبه من العمر، العمر اللي انخطفت منه العشرة الأخيرة خطف، ونحن عم نتوجع فوق الوجع ألفين وجع.. ونحن كل صبح عم نحاول نبدا من أول وجديد.

الجيل الجاي..
ما حنحكيله شي، ما حنخلّيه يحتار ويسأل حاله: عجب أنا القلعة؟ ولا أنا الياسمين؟
الجيل الجاي..
ما حنورجيه صور، ولا حنحكيله مع حكايات قبل النوم الأسامي، حنزرع شتلات الياسمين وين ما رحنا، حنتمّ نزرع لوقت ما تدمّع الأرض من ريحته اللي بتاخد العقل، وتختنق معنا من عطره متل ما عم نختنق، نلفّ بعض اللّفة الأخيرة بقوّة، نبكي سوا علّي صار فينا.. نقول لبعض: معوّضين.. ومن بعد هالبكا ناخد نفس ياسمين أخير من هالعمر.. ونموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *