كواليس

كان يا ما كان، حدث ذلك منذ اثنتي عشرة عام، كانت منكفأةً على نفسها في العلّية، حين ناداها من خلف حجابٍ: ها قد وصلت، افتحي النافذة قليلاً، بين يديّ أمانةٌ ثقيلةٌ لا بدّ أن أسلّمها لك قبل أن أرحل.
كانت مغامرة، كل حدثٍ بدا سريعاً كما لو أنّنا في سباق، اكتظّت الصباحات بالألوان، بدا وكأنّها تسمع الأغاني لأوّل مرّة، تصفُّ الحروف لأوّل مرّة، تجرّب كلّ ما تحبّ لأوّل مرّة..
كل شيءٍ كان أوّلاً على الرغم من أنّه كان الأخير، ملكةُ صباح الخير الأولى بلا منازعٍ ما ذاقت في العمر صباحاً بلطف صباحاته، كان روحاً ليست كأيّ روح، إنساناً بمعنى كلمة إنسان.
هل تكفي أربعون عاماً كي نرتوي من حبّ من نحبّ، لو أنّها أدركت منذ الليلة الأولى أنّه أشار اشارةً واضحةً بأبيض السلام أنّه سيرحل، لو أنّها فهمت مبكّراً معنى رؤياه في تلك الرسالة، لو أنّها وأنّها ويا ليت أنّها ما أنّها هذا الرحيل مثل ذلك.
يرحل الراحلون إلى البعيد عادةً لكنه رحل إلى القُرب أدنى ما يمكن من القلب أن يكون، يرحلون بعد وداعٍ وكستناء الشتاء رحل بعد لقاء، هل كانت تلك الأمانة ثقيلةً حقّاً، لماذا كان عنيداً حريصاً كل ذلك؟ هل كان يعي أنّه كان لها همس السلام وكانت له سهم الختام.
كلّ الذين أحرقوا الرسائل تمايلت كلماتها بمكرٍ أثناء عدّ الخراف قبل المنام لتُنذر بألا هناء لنوم كتّاب العبرات وكتابات العابرين.
كلّ الذين اعتزلوا سماع الألحان كي ينسوا لحن الزمان راحت تغنّي لهم العصافير وترفرف حولهم الفراشات وتصفّق لهم دمى الأطفال ساخرةً قائلةً: مرّ من ها هنا قلبٌ محبٌّ مسكين.
وكلّ الذين غيّروا عناوينهم وملئوا بالمهامّ أوقاتهم بغيّة أن يقعوا في حضن النسيان وقّع النسيان اتفاقيّة تعهّدٍ بأن لا نسيان لهم مهما اجتهدوا في البحث عنه ومحاولة تحصيله.
لماذا لا يعبر البعض قلوبنا بسلام؟ كيف يستوطنون بها؟ بأيّ حقٍّ وبأيٍّ ذنبٍ ولماذا؟
كيف تنبض قلوب البشر؟
البعض نبضه لواحدٍ من ألفٍ، وآخرون نبضاتهم ألفٌ لأيّ واحد!
ما هو الوفاء؟
هل يشمّ البحر رائحة القلوب المكويّة؟
متى ننتهي إلى تلك الشجرة في الجنّة؟
كيف سألقاك؟
هذا سؤال ختام اليوم المتكرّر أسأله لنفسي كلّما عددت الخراف والناس نيام، أو سلّيتها بمشاهدٍ هشّةٍ من عدنان ولينة وأنا أستعدّ للذهاب إلى العمل صباح يومٍ جديدٍ دون أن أنتظر اتصالك في وسط النهار يحمل معي بعض عبء الحياة.
أنت سليل الروح الذي يرافقني، الوقعة التي لم أحسب لمثلها يوماً حساب، الموت الذي لم أستعدّ له، الشوق الذي لا يبرحني كلّما تأمّلت تفاصيل شجرة من الجذور الراسخة إلى عروق الورقة.
عندما سنصل، أتمنّى أن تصمت ألف عام، أن آخذ حقي منك حتى أسقط من فرط الرضا مغشياً على قلبي من الغمرة وأنام، أن أستيقظ بقربك إلى الأبد، وأن تخبرني حقيقة كواليس ذلك النهار.
هل كنت تعلم أنّها آخر عشرين دقيقة تضمّنا معاً، هل تعمّدت غمري بفيض الشعور كي تكبّلني عن كلّ حبٍّ مجنونٍ أو حبّ أي مجنونٍ أياً كان بعدك، هل كنت مجنوناً حقاً، أم أنّ كلينا مجنونان بامتياز مع مرتبة الشرف؟
وحدها الشجرة تدري، ويقظةُ الحبّ والعتب من بعد التعب التي تنتظرنا هناك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *