الله لطيفٌ بعباده

صباح ميلادكِ كتبتُ خاطرة، علّقت عليها صديقة: “محظوظةٌ هذه المولودة، عمّتها تكتب لها وعمرها ساعات”.

لم تكن الكتابة الأولى، كتبتُ لكِ قبلها وأنت تتحرّكين بين جنبيّ أمّك، قبل أن يتنفّس الكون أول عطر أنفاسك يا حلوتي.

= هل تحبّوننا إلى هذا الحدّ يا عمّة؟
– ليس لحبّ الأرحام حدٌّ يا روح العمّة.

لم أكتب لكِ بالتحديد يومها، كتبت لأكثر من حفيدة، ربما لَكُنّ جميعاً، كتبت لابنة الأخ الأولى، ولابنة الأخت الأولى؛ لكنّني حين كتبت لك.. وجدتني أكتب لابنة كلمتي التي نطقتها منذ عشرة أعوامٍ فكانت حقاً ساطعاً كقولٍ فصلٍ لا مجال لعدم مبالاته بادّعاء عدم ابصاره.

حبيبتي تالة..
مضى على مولدك أشهر، كلّما رأيتُ صوركِ على الشاشات تمنّيت احتضانك، سرقة قرصة صغيرة.. صغيرة جداً وسريعة جداً جداً من خدّك، تمنّيت أن أغنّي لك: “هالصيصان شو حلوين”، أن أجلس على الأرض بعدما اعتدنا على جلسات الأرائك والكراسي، أن أمدّ ساقيّ وأضع عليهما وسادةً قاسيةً بعض الشيء بطبيعة حال وسائد الغربة التي لا تكون طريّة مهما تمنّينا حتّى وإن كانت ريش نعام، أن تكون من تلكم القديمات التي لا زالت جدّتك تحتفظ بها في عمّان، وسادة طُرّز عليها زهرٌ وطاووس وكُتب عليها بخيوط الحبّ: “نوم العافية” أو “تصحى على خير” أو “أحلام سعيدة”، لها كشاكش، قماشها ورديّ أو سكّري أو سماويّ أو زبرجديّ فستقيّ بجمال فستق حلب التي لا أدري متى يأذن الرحمن لنا بزيارة أحبابنا فيها ثانيةً.. لا أدري.
تلك الوسادات كانت بمثابة قُبلة ما قبل النوم للجميع بلا استثناء، القُبلةُ التي ستقبّل رأس المُتعب بالكلمات المطرّزة وستهمس للكفّ الأيمن تحت الخدّ أنّ الرزق الوفير قادم والليلة ليلة خيرٍ وهناء وغداً يومٌ أجمل بإذن المنّان.

أريد.. أريد كثيراً.. أريد أن أحملك قبل أن تمشي، لأنّك إذا ما مشيتِ فلن يستطيع حملك أحدٌ وستقولين للأرض: “اشتدّي ما حدا أدّي”، وستحملين الأكوان بطبيعة حال البُنيّات عبر الأزمان، وتلك عبارةٌ شرحها يطول تشرحها لك العمّات خلال العشرين القادمة في ليلة سمرٍ من تلكم التي نسهر فيها حتّى صلاة الفجر فتغار من نجمات الأرض نجوم السماء وتقول للقمر: “هنا أيضاً..تسهر عائلةٌ مُغتربةٌ.. سوريّة”.

أريد.. أريد كثيراً أن أشعر أنّي العمّة الكبيرة التي تقول لوالديكِ إذا ما بَكَيْتِ: “هاتوّا لأشوف”، أريد أن تفترشي الساقين، أن تجرّبي تلك الوسادة كي تصبحي ابنة بلدك، أن تنطقي قبل ميعاد النطق بشهور وأن تقولي: “هذه الوسادة أريح من كلّ وسادات بلادنا البعيدة يا عمّة”، الوسادة في حضن من نحبّ تبدو مريحةً أكثر من أيّ وسادة، أريد أن أدندن لك كلّ أغنيات السلام التي كانت تغنيها لنا جدّتك وجدّتي، لا أدري هل أريد ذلك لي أم لكِ، لكنّني أريده، وأريده بشدّة.
أريد شمّك ألف مرّة، وضمّك ألْفَيْ مرّة، أريد أن نعتذر معاً من الجدّ الذي رحل قبل أن يراكِ، قبل أن يحضر زفاف والديك، وقبل كثيرٍ من الأحداث العائليّة التي افتقدته مرّة بعد مرّة، أريد أن نزوره وندعو له معاً، أن أقول له: “هذه البنت الكبرى مثل عمّتها، هذه البكر، هذه كرزة الروح يا بابا، هذه فستقة العين يا جدّو”.

“الله لطيفٌ بعباده” يا عمّة..
الله لطيفٌ بعباده..

حينما ودّعنا منذ عشرٍٍ مهاجراً، عانقنا عند باب البيت عناقاً يُنذر ألاّ لقاء قريب، ستكبرين.. وتدركين أنّ ذلك حال معظمنا حول العالم.
في تلك الليلة.. بدل أن يمسك مقبض حقيبته أمسك المقبض به!
كرهتُ سماع صوت دواليبها هذه المرّة، كانت تجرّه معها بدلاً من أن يجرّها معه، لم نستطع أن نتمسّك به ولا بها، هذه الدائرة تدور عقداً بعد عقد وجيلاً بعد جيل وسفراً بعد سفر.
أمسكتُ مقبض باب البيت كي لا يبكي! أقصد الباب وليس هو، لأنّه كان يبكي بالفعل كما لم يسبق له في حياته ولكنّ الدمع كان ينهمر إلى الداخل كحال دموع الرجال ينسكب إلى الروح بهدوءٍ متناهٍ صبراً وقهراً دون أن نراه؛ تبسّمتُ كما ينبغي للأخت الكبيرة أن تفعل، مازحته بلهجةٍ جادّة كي أكسر هيبة الوداع: “لا تنسى تبعتلنا صور الولاد أوّل بأوّل ها”!
كان أعزباً حينها، لم يكن يعرف نصفه الثاني بعد، تبسّم بسمةً لا أنساها، أوجع منها ساعتها بسمة الجدّ، كان قد جرّب ذلك الموقف قبله بسنين، فراح الزمن يعيد نفسه في ديارٍ غير الديار، ويبدو ألاّ ديار لنا في هذه المعمورة لأنّنا “رُحّلٌ مغتربون”، هكذا وُشم على أعمارنا وأرواحنا لحظة الوصول.

“الله لطيفٌ بعباده”..
المقبض ينتظر بفارغ الصبر أن يضحك، الوسادات تستعدّ، أغاني ما قبل النّوم تصدح في العلّية منذ أيّام، ورائحة الفانيلاّ عمّت أرجاء بيت العمّة والفرحة تتمايل حسناء، والحمدلله.. أقول الحمدلله.. لقاءٌ قريبٌ كان وعناقٌ طويلٌ اطمأن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *