ستة عشر

وَصَلَت الرسالة الأولى.. وَصَلَتْ..
قُرِأ بالقلبِ البيان وحُفِظ بالعينِ الوجدان وأُدرِكَ ما بين الصّدور مما بين السطور قبل أن تُحذف؛ كفانا دراما يا قيس الرّوح الأجمل، كنت أعدّ مثلك ما تعدّ وأكثر، ولا فضل لشوق أحدنا للآخر على الآخر.
“ولِمَ لا”؟
كيف تستطيع قَرْصَ وَجدٍ ضعيفٍ بخمسة أحرف، أيّ قلمٍ بل أيّ قلبٍ تملكُ به كتابة مثل هذه الرّسائل اللّطيفة؟
لماذا ينبعث من بين حروفها عبق كولونيا اللّيمون فتّاناً لأهوي على كرسيّ الخيزران القديم خاصّتي وأضرب براحتي اليمنى على نحري وأقول: هذا الكُوَيْتِبُ المغفّل ملكي أنا ولن يكون ملكاً لكُويْتِبَةٍ في الكون سواي.
وددتُ أن ترى ملامح الوجه أثناء تهجئة: “وَلِمَ لا”، وددتُ أن ترفق بحال رجفة الأصابع أثناء كتابة الرّد، أمّا خفقات القلب فحدّث ولا حرج فقد سَمِعتها كلّ نسوة الحيّ وارتفعت الزغاريد لأن قلب مالكة العلّية نبض بالحبّ من جديد.
مغفّلةٌ مثلك تماماً أقع في غرام الكلمات فتغنّي النصوص أنّ هذا القيس قيسي وروحه روحي وما أتعس قلوب الشعراء يا صديق.

هذه المرّة، سأردّ على الرسالة من ختامها تحليقاً نحو البداية، أحبّ أن أهدي الكاتب الجميل جميع شجون “سلطان الملاح”.

إذا جنّ جنون نرجسيّته لأنّ حسناء جريئةً خلف الشّاشات أهدته قصيدة، فأحبّ أن أُكمل خيري مع نهاية الخريف بأن أُسقط فؤاده مع أوراق الشّجر وأهديها له أغنيةً بصوت كارمن توكمه جي، سأكون مسرورةً جداً إن ذهب إلى العمل غداً دون أن يستطيع النوم هذه اللّيلة ولو حتّى ساعة بسبب كاتبةٍ تلتقط أشواقه شوقاً بعد شوقٍ وتصنع منها إكليلاً تزيّن به شعرها حيناً بعد حين.

من أنتِ؟ سؤالٌ وجيه؟ نَم يا عزيزي نَم، لن يخبرك ساعي البريد الرّزين الأمين مَنْ.

يا ساعي البريد، أخبرني بربّك..
ما هذه الرسائل الحنونة التي تصل إليك فترميها على خدودنا كقُبلاتٍ مجنونةٍ تُسرق منّا على عجل؟
وعدتنا أنّك لن تشاركنا إلا ما طاب من الكلمات، كيف تتزحلق بين الرّسائل الشّاردة لديك كلّ هذه العبارات المشحونة بغضب الشوق ولعنات الحنين؟
هل تدرك أنّك ستجنّ معنا آخراً؟ طبّاخ السمّ لا بدّ له من تذوّقه في النّهاية شاء أم أبى، وأنت يا عزيزي ستجد نفسك مضطراً لنفض الحبّ الذي تنشره على حبال الغرام تلك، وقد أعذر من أنذر.

يا ساعي البريد، أخبره أنّها كانت أقصر وأسرع وأبلغ رسالةٍ تصلني عبر التّاريخ، أخبره أنّي سأردّ عليه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، أخبره أنّي لا أخشى شيئاً أبداً، وأنّي أملك مرسالاً أرجوانياً كما يملك، وأنّنا نستطيع أن نستخدمه لتنتهي في صندوق بريدك الحكاية، إلاّ أنّ المتعة تكمن في فوضى غمزات الكلمات التي لا يرفّ لها أثناء غَزْلِ الغَزَلِ رمشٌ لتخطف قلوب القارئين خطفاً.
يا ساعي البريد، أخبره أنّي أحبّه أيضاً، أحبّه كثيراً كما لا يستحقّ ولا يتخيّل؛ أمّا قولي “لا يستحقّ” فلأنّه متردّدٌ يصرّ على أن تكون علاقتنا افتراضيّةً حتى الآن على مرأىً من البشر ومسمع يعرفها الجميع ويتمتّع بنكهتها كلّ العشّاق سوانا، وقولي “لا يتخيّل” لأنّه خوّافٌ خياله لم يَسُقْهُ إليّ بعدُ رغم يُسْر ذلك.

هل ينبغي للعينين الكحيلة التي نحبّ أن تبرق مثل هذا كرمىً لأربعة حروف؟ القلوب الصغيرة لا تحتمل، أتفهّمك، لنوجّه النّداء لنداءٍ أخفّ وطأةً على عقلك: سلامٌ على روحك يا رُوح الحمَام.
سمعتك وضحكت، والله سمعتك، تناديني مغاضباً مرتبكاً بصوت أبي عصام في باب الحارة قائلاً: يخرب بيتك من حالك.
ضحكتُ ضحكةً شريرةً تحبّها أم زكي، ما بالكم يا روح روحي تترنّحون إذا سمعتم غَزَلاً شفيفاً حاولنا به أن نقضّ مضجع هيبتكم مثل ذاك؟
أريد أن أسألك يا قمر، تتسائلُ بدلالٍ أعشقه الآن: أين الياء، حسناً، أريد أن أسألك يا قمري، أرضيت الآن؟
أريد أن أسألك: هل كانت عينا بشير تستحقّ أن تغامر جميلة الجميلة وتتحمّل لأجلهما شدّ الشعر وصرخة أبيها التي دَوَتْ في المجرّة يوم صرخ صرخته الشهيرة: جميلة!
أعتقد أنّ الحبّ يستحقّ، لا فرق في حضرة الحبّ بين عميد جامعةٍ ومُعيدٍ فيها، لا فرق بين أستاذ الكيمياء وخبّاز الحارة، الحبّ يا صغيري لا علاقة له بمُسمّاك الوظيفي ولا ما يحويه حسابك البنكيّ أيضاً.
تقول لي: لا يوجد حسابٌ بعد، تقول أن المرتّب لا يروي الظمآن وبالكاد يسدّ الرّمق، تقول أنّك سئمت قسوة الحياة، قهر الرّوتين، وهذه العجلة التي تدور مُسرعةً بلا رحمة، بأنّك تلاحق البَرَكَةَ تُريد أن تتمسّكَ بها فلا تُمسك بك، بأنّ هذا المال يُقسّم تقسيماً مزعجاً، بأنّك كلّ شهرٍ تقول لنفسك أنّ الشهر المقبل أفضل، بأنّك تعدها وتمنّيها بأنّ البَرَكَة ستلحق بك كما قسمت هذا الخير بينك وبين من يحتاجكَ ويحتاجهُ هناك ثُلثَيْنِ إلى ثُلثْ، تقول أنّ الثّلث المُتبقّي لا يؤدّي الغرض و لا يكفي ولن يكفي كي ترضى الشمس أن يحتضنها القمر.
يا صاحب القلب الوضّاء أخبرني: متى تنامُ على ذات الوسادة وَسنووايت؟ متى تنير عتمة غربتك وتحضر معها إلى كوخك الأقزام لتُصبحا معهم ستة عشر؟
هل تدرك معنى ستة عشر؟
ستة عشر حُباً يصنعون لك فطور الصّباح ويستقبلونك عند العودة من العمل ويغنّون لك أغاني المساء ويتأكّدون من أنّ البطّانية الدّافئة تُغطّي كلتا قدميك جيداً حين يتعانق العقربان ليلةً بعد ليلةٍ تمام الثانية عشر؟ ألا تظنّ بأنّ من يحظى بستّ عشرة قبلةٍ بعد أن ينام محظوظٌ أكثر من ذلك الزّاهد الذي يرضى بواحدةٍ وحيدةٍ قُبيل النوم؟ هكذا قال لي الأقزام؛ كن بخيرٍ يا ملاكي، كن بخير يا ملاك.

يتبع بكلّ سرورٍ أيضا..

المرسلة: حمامة الأيك
العنوان: كرمى لعينيك
ص.ب: 2033

هامش: لا تخشى شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *