كَرْمَلَة

أُمّيٌّ أنا، لم أتعلّم الكتابة بعد، لكنّني أتقنتُ القراءة، أقصدُ قراءتها كما لا يقرؤها أحد.
حان دوري في الكلام، حنيني لإرسال السلام، أريد أن أقول لها: “شكراً”، أن أفرش سماواتها السبع بزهر الكرز واللّيمون، أن أقول: “عذراً”، أن تمضي السنين، وأن أقول: “قد حان وقت الحصاد”؛ أن نقطف معاً ثمرة الصبر الجميل؛ أن أختلس لثمةً بين العينين، أن ألتفّ إلى أبد الآبدين بتلكما الذراعين، وأن نسرق من العمر سويّةً نومة ساعةٍ هنيئةٍ كتلكم الساعات مرّةً أهنأ، أريد وأريد وما أكثر ما أريد، ولا أعرفُ إلى الآنِ ما تريد.
أريد أن أقول لإناث المجرّة أنّ هذه الأنثى تستحقّ، وأنّي أتحمّل لأجل عينيها كما تتحمّل الكثير، أعرف أنّهنّ سترشقنني بالبيض بلا رحمة، وأعرف أنّها ستكتفي بِرَشّي بالفانيلّا وبعض الخميرة علّ نُضْجي يتمُّ أسرع، وقد “تُكَرملني” كالسّكر، حلوىً يحلو لها تذوّقها بين حينٍ وآخر، وأنا لا أفهم كيف وجدتُني ذات حُبٍ عذبٍ قد اعتدت “الكَرْمَلَة”.

أعرف أنّهن جُنِنَّ من طيشنا منذ زمنٍ ليس ببعيد، وأعرف أنّنا استطعنا افقادهنّ صوابهنّ بجدارة، وأعرف أنّ حفلة تراشق البيض هذه مُذُ ابتدأت حلفت يميناً مغلّظاً ألّا نيّة لديها بالانتهاء، وأنّ كلا الطرفين يذوبان غراماً بمتعة المشاكسة تلك رغم ما يدور أثناءها من ألمٍ وما يعقبها من خسائر؛ أدركُ أنّ في جعبتها لي بدلاً من الحكاية حكايا، وأنّها تفرّغُ مشاعراً سلبيةً بائسةً كثيرة لتخفّف من حدّة التوتّر، وأنّها تبدي لي ما تحاول أن تخفيه، وأُبدي لها ما لا أستطيع إخفائه عنها، وأعرف أن كلمة الحبّ من ذكرٍ إلى أنثاه صارت في بعض الأحيان مدعاةً للسّخرية بسبب لعنةٍ مّا حلّت على درب التبانة إلا ما رحم ربّي.

أعرف وأعرف وليتني لم أعرف، ولا تدركُ بأنّني أعرف!
تظنّ أنّي لا أشعر بها بعد، وأظنّ بأنّ بعض الظنّ إثم، إثمٌ عظيمٌ يا فستقة الرّوح الأجمل.

هذه ليلتي، ليست ليلة أم كلثوم ولا أبيها! أريد أن أتأمّل تقاسيم الوجه النّائم بهدوء، أريد أن أحلّ اللّغز القديم، أن أكمل سرد فصل الرواية الأخير، أريد معرفة نتيجة معادلة الكيمياء المعقّدة تلك، وأريد أن أرتاح.

ما هيَ الراحة؟
هل كانت راحتنا في الحبّ أم أنّ الحبّ لم يكن أكثر من محطّة استراحة؟

أنا لا أنسى، أنا أعتذر؛ وأنا، أعرفُ بأنّك مُرْهَقة، وأُدرك تمام الإدراك كم أنت مُحبطة، وآتيك على استحياءٍ كلّ مساءٍ لا أملك سوى قبلاتٍ تدعو لك عنّي: “الله يعطيك العافية”، أحاول منحك حضناً يشبه حضنك فلا يُشبه، وروحي تنكسر لروحك كلّ دمعةٍ يقيناً بأنّ الله رأى ويرى، وأنّ الله على ما يشاء قدير.

أمّي الحبيبة..
أريد أن أشكرك لأنّك لم تتركيني عند لحظة النّهاية، أريد أن أفتخر أمام الأكوان وأقول أنّ شمس الشموس هذه ربّتني، وأريد أن تفتخري بي أيضاً، أن تقولي ما ضاع ركضي بك حافيةً للنّجاة بأنفسنا من كلّ ما يؤذيك ويؤذيني يا ولدي.
كنت أسمعهم، كنت أسمعك، كان يضايقني صديقي بين فترةٍ وأُخرى بأنّ البعض لديهم عوضاً عن الأب اثنان، وبدلاً من الأمّ ثلاثة، وكان ذلك شبحاً مزعجاً في معظم الأحيان وكلّ الأحلام، “وحدها أمّي: أمّي، ووحده أبي: أبي؛ حتّى وإن شاء القدر لحكمةٍ مّا ألّا يُكملا معاً المسير”.
أريد أن أشكرك، أن أشكر جمال الروح الذي منحتنيه، أن أشكر اللّطف وأدب الرحيل كما لو كنّا في كلّ يومٍ نتعرّف معاً معنى: “سراحاً جميلاً”..
آسفٌ جداً، لأنّك أغلقت الباب لأجلي، لأنّك لم تعودي تلك الأمّ التي أذكرها في طيف بيتنا هناك، لأنّ كلّ شيءٍ في ملامحك تغيّر منذ ذلك الصّباح المريع؛ لأنّك اضطررت لاستبدال حذاء سندريلا الزجاجيّ اللّامع بحذاء لبنى السريعة، ولأنّك قصصت الشّعر الغجريّ الطويل وغزلتِ لي منه أدفأ كوفيّة؛ ولأنّك منذ أعوامٍ تركضين وتركضين، وتركض معك الحياة، ولا أستطيع ركضاً معكما ولا لحاقاً بكما حتّى الآن؛ ليس لأنّي لا أملك حذاءً رياضياً مثلك، وليس لأنّي لست سريع، إنّما لأنّك تحملينني وتتحمّلينني إلى الآن يا أمّي.

حبيبك: سُكّر
العنوان: بين الذراعين
ص.ب: 2033

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *