نانا

: وين ماما؟
: بتلاقيّا بِشي غرفة، عم تصلي شي صلاة.
*****
من مِثل هذا السؤال، وُلِد من رحم الكلمات هذا المقال.
*****
“يسعد صباحك بدر .. يا نور عيني قوم ”
هكذا كانت تُدندن لنا لحظة استيقاظنا الأولى
تُبارك نهارنا ببسمةٍ صافيةٍ تسعُ الكون
تغمرنا إيماناً وسعادةً وحياة
هل تذكرُ هناءً في العمر ألطف من صباحٍ يتنعّم بملامح جدتك؟
بصوتها، بتلاوتها، بضحكتها .
يشتاقك القلب ” نانا”. (1)
كبرنا، أصبح الأخوال أجداداً والخالات جدّات، ولم يتبقّ بين أحفادك صغيرٌ يُذكر، الكلّ الآن غدا كبيراً لسالف الزّمان يتذّكر.
حتى أن مسك الختام الذي أنار عائلتنا بعد رحيلك كبر معنا بسرعةٍ مدهشة، هذا قدرُ كلّ من يقتحم عالم الكبار فجأة، أن يصبح كبيراً على عجلٍ مثلهم.
لديّ أسئلةٌ كثيرة، أحتاج إجاباتها حناناً ولطفاً منكِ.
هل حقاً كنتِ تحبيننا لتلك الدرجة؟ كيف لم يكن لذلك الحبّ حدّ؟
ألم تضيقِ ذرعاً منّا وأنت تتعثرين بنا مستلقين على الأرضية الخضراء في غرفة جلوسك؟
كنا نظنُّ أنّا نلتمسُ منها برداً، وإذ بنا نصنع معها ذكرياتٍ متينة.
لماذا لم تُبد انزعاجك من ضحكاتنا العالية الكثيرة طوال الصّيف آناء الليل وأطراف النهار؟
كيف صبرتِ على بابٍ لا يُغلق؟
على الغرف المفتوحة والمطبخ المذهول!
على الأحذية غير المصفوفة، وجوازات سفر المغتربين في كلّ الدنيا، والزائرين موضوعةً مؤقتاً على الرفوف.
ألم تشعري بالملل أثناء عدّ الغُرزِ لحياكة سترات الصوف وغزل مفارش الضيوف لنا جميعاً؟
كم كانت طقوسُ إعداد ” المونة ” كل عام لعائلتك الكبيرة وأُسرها الصغيرة في الغربة والشتات مرهقة؟
كيف استطعتِ حفظ ما يحب من طبخك كل ابن وحفيد؟ بل وصهرٍ بعيد !
كيف تمكنتِ من العدل بتوزيع الحب متساوياً بيننا؟
كيف كان بيتك عطراً مرتباً دون أن تشتركي في “تطبيق راحتي”؟ أو تستقدمي عاملةً منزليةِ مقيمة.
كيف تألقتِ بمثلِ ذاك الجمال المبهر؟ دون اشتراكٍ في صالةٍ رياضية، ولا مركز حمية صحية؟
بل كيف تربعتِ على تلك الحكمةِ دون أن تحضري دورات التنمية البشرية، أو تقدمي على شهادات البرمجة اللغوية العصبية!
هرمنا يا “نانا”، كبرنا قبل أن نكبر، وشبنا قبل أوان المشيب.
سقى الله أياماً لم يلوّث سمعنا النقيّ فيها سباب، ولم تؤذ نظرنا الطهور قراءة شتيمة .
أيامٌ كانت فيها النساء نساءً والرجال رجال.
نفتقدُ زحمة بيت العائلة، وخيره الذي لا ينضب.
وللجدة الكريمة تمازح أحفاداً إذا أكلوا دون قرارٍ ضمنيًّ بأن يشبعوا : “كلو ما خلّيتوا شي”.(2)
وأكبر عتاباتها لهم حين يسهرون دون نيّةٍ بأن يناموا: “ما بقى في دين ما بقى في حيا” !(3)
_فضلاً قراءة القاف باللهجة الحلبية لتقوم مقامها وتبلغ مرامها _.(4)

لم يخل الأحفاد أن يتبعثروا في البلاد فلا تجمعهم بعد اليوم إلا جنة الخلد برحمة الرحمن .
نشتاق رؤية أمّ أمهاتنا تؤنّب من تؤنبننا أمامنا دون اعتباراتٍ لفلسفة التربية الحديثة وتعقيداتها .
التربية خط أحمر عندها، التربية للكبير قبل الصغير، لا فرق بينهما حين نحتاج لتقويم السلوك.
كم استردّت لنا حقوقنا العاطفيّة من أمهاتنا دون أن تدري !
كم تنهدنا وتبسمنا ونحن نهمهم في الصالة بهمسٍ أطفالاً ضاحكين فيما بيننا: “خييي” يا ماما، لك أمك ولي أم! يومٌ لك ويومٌ عليك يا ماما. (4)

رغم أن أكبر المشاكل التي أذكرها :
نانا _”متنيزقة”_ لأن الخالات _تعوّقوا_ بالتّلل وما عرفت تكمّل قراءة وردها اليوم عالسّوا ! (5)،(6)
_عالسّوا : تعني هنا لم تتم تلاوة وردها والعشر أجزاء خاصّتها اليوم، رحمها الله._

أذكرها في أحد الأيام منزعجةً لأنها لم تستطع أن تقرأ إلا سبعة ! عفا الله عنّا أين صرنا وقد ولدنا من رحمٍ من مثل ذلك الرحم.
اللهم بارك أوقاتنا وحسّن ما تبقى من أعمارنا .
*****
أنا هيك بتذكر نانا، بيت معطّر، مصحف طول النهار ما بيتسكّر، كتيب أذكار ومسبحة معطّرة، وسجادة بآخر الليل ممدودة .
انت شو بتتذكر ؟
*****
بقي أن أقول:
إذا اشتقت لنانا، “كن مثل نانا”.
الحمدلله أنّها كانت جدتي .
رحمها الله. وجعل لها نوراً ومن جاورها وجمعنا بها في جنات النعيم.

*****
إلهِي لَسْتُ للفردوس أهلاً.. ولا أقوى على نارِ الجحِيم
فَهَب لِي توبة، واغفر ذنوبي .. فَاِنَّك غَافر الذنب العظيم

*****
هامش:
(1)نانا: صيغة مناداة الجدة باللهجة الحلبية.
(2)كلوا ما خليتوا شي: عبارة شائعة تقال مداعبة لمن يأكل بانشراحٍ دون نية بالشبع.
(3)ما بقى في دين ما بقى في حيا: عبارة شائعة بمعنى “اللي استحوا ماتوا”، “وإن لم تستحِ فاصنع ما شئت”.
(4)تُنطق القاف ألفاً مفخّمةً جداً من أقصى أقاصي الحلق عند الحلبيّة.
(5)خيي: تشير إلى الشعور بالتمكن والانتصار وتُمدّ ياؤها مع أخذ نَفَسٍ طويل إشارة إلى الراحة وأخيراً.
(6)متنيزقة: كلمة حلبية، تعني متضايقة.
(7)عالسّوا: كلمة حلبية، تعني بإتقان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *